أبعد من تايوان.. ما مدى واقعية رؤية ماكرون لأوروبا مستقلة؟
٢٢ أبريل ٢٠٢٣مرت ست سنوات على خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي ألقاه في جامعة السوربون العريقة في باريس حيث تحدث علنا عن مفهوم السيادة داخل الاتحاد الأوروبي.
وتشير قضية الاستقلال الاستراتيجي للتكتل إلى فكرة ليست وليدة اللحظة، بل ظهرت على الساحة منذ وقت طويل وتعني أن تكون القرارات الأوروبية مستقلة في القضايا الاستراتيجية الهامة، وفقا للمراكز البحثية التابعة للبرلمان الأوروبي.
وبعد عودته من بكين، أثار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضجة كبيرة على الساحة العالمية عندما شدد على ضرورة ألّا تكون أوروبا "تابعة" لأمريكا أو للصين في ملف تايوان، حيث أكد على أن "الاستقلال الاستراتيجي" هو "معركة أوروبا".
وقد جرى تفسير حديث ماكرون باعتباره دعوة لتقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة وأيضا بمثابة تحذير من مغبة الانزلاق في الأزمة المتصاعدة حيال تايوان.
وخلال خطابه في لاهاي بهولندا بعد عودته من الصين بأيام، سلط ماكرون الضوء على أبرز معالم مفهوم السيادة الاستراتيجية لأوروبا حيث ركز على الجانب الاقتصادي وهو الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات حيال واقعية تنفيذ أفكار الرئيس الفرنسي وفيما إذا كانت قابلة للتحقيق؟
الاتحاد الأوروبي يعتمد على الصين في التحول نحو الاقتصاد الأخضر
يستند نموذج ماكرون نحو تحقيق السيادة الاقتصادية للتكتل الأوروبي على خمس ركائز هي التنافسية والسياسة الصناعية وحماية الأسواق والمعاملة بالمثل في العلاقات التجارية والتعاون الدولي.
وتتمحور إحدى الأفكار الرئيسية للرئيس الفرنسي حول ضرورة أن يمضي الاتحاد الأوروبي قدما في إنتاج سلع ومنتجات ذات تنافسية وجودة كبيرة بالتزامن مع العمل والتعاون الوثيق بين بلدانه مع مساعي للخروج بسياسة صناعية مشتركة من شأنها أن تعزز قوة وتنافسية السوق الأوروبي في مجالات خاصة بالتحول إلى الاقتصاد الأخضر والحياد الكربوني وإنتاج الرقائق الإلكترونية.
ويشدد الرئيس الفرنسي على أن هذه التقنيات تعد حيوية وضرورية من أجل تحقيق أهداف أوروبا المناخية ما يعني إلزامية إنتاجها داخل الاتحاد الأوروبي.
بدورها، تقول كارمي كولومينا، الباحثة البارزة في" مركز برشلونة للشؤون الدولية"، إن الصين تعد مصدر المواد الخام اللازمة للتحول نحو الاقتصاد الرقمي والأخضر، مضيفة أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على العملاق الآسيوي فيما يتعلق بتنفيذ المشروعات المناخية.
وفي إطار مواجهة هذه المعضلة، اقترحت مفوضية الاتحاد الأوروبي مؤخرا سن قانون جديد ينظم قضية استيراد هذه المواد الخام الهامة لا سيما المغناطيس المستخدم في توربينات الرياح والسيارات الكهربائية ومعادن الليثيوم والكوبالت والنيكل اللازمة لصناعة البطاريات. ويتعلق الأمر وأيضا بمعدن السيليكون الضروري في صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية.
ويجرى في الوقت الحالي مناقشة هذا المقترح في أروقة البرلمان الأوروبي وبين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وتتساءل كولومينا حيال إمكانية تنفيذ هذا المقترح بشكل فعال وبسرعة كافية خاصة أن الأمر يأتي في وقت يشهد تعزيز الاعتماد على الدول الأخرى خارج الاتحاد الأوروبي.
الاعتماد على الولايات المتحدة في قضايا الأمن
ولا يقتصر مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية على الشق الاقتصادي بل يحمل أيضا في طياته أيضا البعد الأمني فيما يعود الأمر إلى عام 2017 عندما شرع ماكرون في دعوته لإنشاء قوة تدخل أوروبية مشتركة بما يشمل ميزانية دفاع وعقيدة عمل مشتركة.
والعام الماضي وبعد شهر من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير / شباط عام2022، لاقت فكرة السيادة الأوروبية استحسانا من القادة الأوروبيين إذ أعلنوا عن الرغبة في تعزيز القدرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي وزيادة قدرات بلدان التكتل على التصرف بشكل مستقل مع احترام كامل للالتزامات في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ومنذ الحرب في أوكرانيا، قامت دول الاتحاد الأوروبي بزيادة إنفاقها الدفاعي مع تقديم مساعدات عسكرية لكييف.
وترى الباحثة كولومينا أن ماكرون يعد أكثر القادة الأوروبيين دعما للتعاون الدفاعي المشترك إذ يعتقد الرئيس الفرنسي أن تعزيز السيادة الأوروبية سيمهد الطريق أمام تمكين الاتحاد الأوروبي من رسم مساره الخاص بعيدا عن القوى العالمية الكبرى.
في المقابل يرى بنجامين تاليس، الباحث في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، أن هذا المسار غير واقعي و"غير مرغوب فيه "في الوقت الراهن، قائلا إن فكرة السيادة في العلاقات الدولية تعد "أسطورة".
ويشدد على أن يقصده ماكرون يتمثل في"مزيد من الاستقلالية عن الولايات المتحدة"، محذرا من تبعات ذلك.
وفي مقابلة مع DW يقول "مازالت أوروبا تفتقر إلى القدرات اللازمة للدفاع عن نفسها وليس هذا فقط بل تفتقر إلى القدرات للمنافسة على الساحة العالمية بما يتماشى مع أطروحات ماكرون حيال الاستقلالية الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي."
ويضيف أن أوروبا "تمتلك على الورق أعدادا كبيرة من الدبابات والجنود لكنها تفتقر إلى ما يسمى بالعوامل التمكينية الإستراتيجية لوضعها في مكانها إذا ما تحركت الكتلة بمفردها بعيدا عن الولايات المتحدة .
كما تعد الترسانة النووية الأمريكية الكبيرة بمثابة ضمانة أمنية تمثل الملاذ الأخير للردع ضد القوى النووية الأخرى."تعد الترسانة النووية الأمريكية الكبيرة بمثابة ضمانة أمنية تمثل الملاذ الأخير للردع ضد القوى النووية الأخرى."
الاتحاد الأوروبي والخريطة السياسية الدولية
وعقب تصريحات ماكرون الأخيرة، طرح عدد من السياسيين الدوليين وأبرزهم السيناتور الأمريكي الجمهوري البازر ماركو روبيو تساؤلات حيال هل ماكرون كان يتحدث نيابة عن الاتحاد الأوروبي؟
وفي ذلك، قال رئيس الوزراء البولندي ماتيوز مورافيسكي قبل أن يتوجه إلى واشنطن إن "التحالف مع الولايات المتحدة هو الأساس المطلق لأمننا الذي يقوم على ركيزتين، التعاون الاقتصادي ومجال الدفاع".
والتزمت مفوضية الاتحاد الأوروبي الصمت حيال التعليق على تصريحات ماكرون بشأن تايوان.
من جانبه، يقول تاليس من المؤكد أن ماكرون لا يتحدث نيابة عن أوروبا، إذ يرى أن الإشكالية حيال طرح الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي تتمثل في أنه لا يوجد ما يسمى بـ "الشمولية الأوروبية على المستوى الاستراتيجي ولا يوجد إجماع على نظرة عالمية للاتحاد الأوروبي".
ويشير تاليس في حديثه بشكل ضمني إلى بلدان مثل فنلندا وإستونيا وجمهورية التشيك وبولندا وهي دول ترغب في زيادة المنافسة بين الأنظمة الاستبدادية والدول الديمقراطية، مضيفا أن المستشار الألماني أولاف شولتس يريد التمسك بـ "عالم الأمس"، أي ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا مع المحافظة على نظام تجاري عالمي يشمل الصين.
ويقول إن ماكرون يرغب من وراء تصريحاته الأخيرة في وضع فرنسا كقوة عظمى عبر"البوابة الأوروبية" ومن ثم التسويق لفكرة أن مصالح فرنسا وأوروبا مشتركة. ويضيف تاليس أن خطة ماكرون ستعمل في نهاية المطاف على تقويض أوروبا على المستوى الاستراتيجي وتزيد من الانقسامات بين بلدان التكتل.
في المقابل، ترى كولومينا أن هناك انقساما تقليديا قويا داخل الاتحاد الأوربي بين الدول التي تعمل لتعزيز قوة الاتحاد من جهة وبين الدول التي تعمل لتعزيز التعاون عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة.
ويبدو أن ماكرون أدرك صعوبة تحقيق مساعيه في "الاستقلال الاستراتيجي" للاتحاد الأوروبي إذ قال في خطابه في لاهاي "يراودني حلم"، موضحا رؤيته لاتحاد أوروبي أكثر استقلالية من الناحية الاقتصادية والصناعية، بيد أنه في هذه المرة لم يذكر "تايوان".
----
لوسيا شولتن / م.ع