ياسمين تونس في مواجهة سحابة صيف
٩ نوفمبر ٢٠١٢اعتاد التونسيون استقبال أبنائهم المهاجرين العائدين إلى أرض الوطن في فصل الصيف بأزهار الياسمين، كما اعتادوا مجاملة ضيوفهم الأجانب في المطارات والمهرجانات والنزل بقلائد من الياسمين وأزهار الفل. لكن هذه العادات عرفت انتكاسة نسبية خلال موسم الياسمين الحالي والذي يشارف على الانقضاء.
زهير الأحمر (47) صانع وبائع للياسمين بشارع الحبيب بورقيبة بقلب العاصمة والذي بات رمز الثورة والاحتجاجات السلمية في تونس، وهو يزاول هذه المهنة في المكان نفسه منذ 32 عاما.
يقوم ابراهيم أمام محله بتصفيف أزهار الياسمين على أعواد رقيقة من نبتة الحلفاء (نبتة تونسية)، ثم يجمع عددا من هذه الأعواد التي تعلوها زهرة ياسمين أوالفل في باقة واحدة وتحاط بخيط أبيض رقيق مكونة "المشموم" أي الباقة. ويرتبط حجم "المشموم" بعدد الأعواد المستعملة فكلما زاد عدد الأعواد صار "المشموم" أكبر.
اقتربنا من زهير بينما كان يصنع "المشموم" استعدادا لتسليمه إلى "الدوارين"، وهم الباعة المتجولون الذين يحملون أطباق المشموم لبيعه وسط الشوارع الرئيسية وفي المقاهي السياحية وفي أمكان الترفيه.
تحدث زهير الأحمر إلى DW عربية قائلا "يبدأ موسم الياسمين في شهر حزيران/يونيو من كل عام ويمتد إلى مطلع كانون أول/ديسمبر. نحن حاليا على مشارف نهاية الموسم".
الياسمين دورة اقتصادية كاملة
ميزة هذه المهنة كما يتحدث زهير، أنها ترتبط بدورة اقتصادية كاملة وتمس عمال من عدة شرائح. تبدأ هذه الدورة بجني أزهار الياسمين أولا من الأشجار المنتشرة بكثافة خاصة في الضاحية الشمالية للعاصمة، تحديدا بمنطقة رادس، ومن ثم يشتري تجار المهنة الياسمين بأسعار الجملة قبل ان يتم تصنيعه في شكل "مشموم".
تختص عادة النساء بجني أزهار الياسمين عندما تينع في الحقول أو في المساحات المخصصة لزرع مثل هذه الأزهار. فيما ينتشر الأطفال والشباب الذين يبدأون عطلهم المدرسية في الصيف في الأحياء لقطف أزهار الياسمين من المنازل.
يحظى "المشموم" التونسي بشهرة عالمية واسعة ذلك انه يعد من الصادرات المميزة للسلع التونسية إلى الخارج وذلك على الرغم من قصر عمر "المشموم" فهو لا يتجاوز في أقصى الحالات أربع وعشرون ساعة.كما خصصت تونس مهرجانا موسميا احتفاءا بهذه الزهرة تستضيفه مدينة رادس.
وقد أمكن للتونسي فرجاني اليعقوبي أن يدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية في سنة 2007 عندما نجح في إعداد أضخم باقة ياسمين تألفت من اكثر من 23 ألف زهرة فاق وزها 6 كلغ وبكلفة تجاوزت 150 دولارا، بينما يعادل المشموم العادي 3 دولارات فقط.
"المشموم" يواجه سحابة صيف
غير أن هذا الاشعاع العالمي لم يجنب قطاع الياسمين في تونس الهزة اقتصادية التي شهدتها البلاد بعد الثورة العام الماضي مثله مثل باقي القطاعات، بسبب الاضطرابات الاجتماعية والامنية وانهيار القطاع السياحي، لينضم عدد كبير من عمال هذا القطاع غير المنظم إلى صفوف العاطلين في تونس والذين فاق عددهم في أشهر قليلة المليون.
وبدلا من ذلك منحت زهرة الياسمين لقبها إلى الثورة التونسية التي تطايرت تداعياتها على دول الربيع العربي ليفسح المجال إلى الساسة والأحزاب ليتصدروا واجهة المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة منحت فيها الأولية للإصلاحات السياسية وإعادة تأهيل الاقتصاد والمؤسسة الأمنية على حساب المناحي الأخرى للحياة في تونس.
ولكن الأمر بالنسبة لتجار القطاع لا يعدو أن يكون مجرد سحابة صيف، لأنه وبمجرد استعادة السيطرة على الأوضاع الأمنية والتعافي التدريجي للقطاع السياحي مع عودة تدفق السياح، شهد قطاع الياسمين انتعاشة نسبية أمكن له بفضلها الخروج من مرحلة الركود.
وقال زهير الأحمر "ستستمر هذه المهنة طالما أن هناك الآلاف من العائلات التونسية تعتاش من جمع الياسمين وبيعه، المزارعون والجامعون وكبار التجار والدوارون".
وبدوره يؤكد الشاب أنيس البليدي (28 سنة) في حديثه معDW "إن بيع الياسمين في تونس مهنة منتشرة بكثرة. وعلى عكس المتوقع أعتقد أن هذه المهنة ازدادت اشعاعا بعد الثورة".
الياسمين هوية تونسية
يقطن أنيس في حي الزهور الشعبي الذي يقع على الجهة الغربية بأحواز العاصمة. بدأ هذه المهنة منذ كان عمره 13 عاما. مع انطلاق الموسم في كل صيف يحاول أن يجمع أكثر ما يمكن من الياسمين لأن ذلك يعني المزيد من المال.
اكتسح شيئا فشيئا المهنة إلى أن انفرد بالريادة في سوق الياسمين بحي الزهور. وفي مرحلة لاحقة بدأ في التعامل مع "الجامعون" الذين يجلبون له ازهار الياسمين ثم وبعد الانتهاء من صنع المشموم يوزعه على "الدوارون" الذين يتولون بيعه. ويوفر له هذا العمل دخلا يوميا محترما خاصة في ذروة الموسم وفي الأعراس.
في العادة يتميّز باعة المشموم عن غيرهم بارتدائهم ملابس تقليدية تتماشى وطبيعة هذا المشموم المتجذر في التقاليد التونسية. لكن أنيس يؤكد لـ DWعربية أن ضمان دخل جيد ليس مرتبطا بسعر المشموم وإنما بكيفية تسويق البائع لبضاعته وطريقة الحديث مع الزبون.
يقول أنيس "تعاملي مع الزبون يحدث فارقا مع بقية البائعين حتى لو كنا في نفس المكان. إذا وفقت في التسويق الجيد والحديث يمكنني أن أوفر يوميا 40 دينارا بدل 20 او 25 دينارا".
ولكن بغض النظر عن العوائد المادية. فإنه في تونس اليوم ينظر إلى الياسمين على أنه مكون ثقافي للشخصية التونسية، فضلا عن أنه عنصر جمالي وحضاري مرتبط بالتاريخ وبالذاكرة الجماعية في تونس.
وفي حديث مع DW يرى عبد المجيد دقنيش، الكاتب والصحفي المختص في الشؤون الثقافية بالإذاعة التونسية، إن ثقافة الياسمين تعد جزءا من الهوية الثقافية والحضارية لتونس منذ القدم، وقد وفدت مع الأندلسيين الذين استقروا بالجزء الشمالي للبلاد خاصة منذ القرن الخامس عشر بعد سقوط غرناطة آخر معاقل الاسلاميين في الأندلس.
ويشير دقنيش إلى أن أشجار الياسمين التي اشتهرت بها تونس ورسخها الأندلسيون في البلاد طبعت مع مرور الزمن الشخصية التونسية المتوسطية المنفتحة، والمحبة للجمال والسلام. وهو أمر ترك بصمته بحسب الكاتب على طبيعة الثورة التونسية التي أسقطت الديكتاتورية بثورة سلمية.
ويقول دقنيش "إن نبتة بسيطة مثل الياسمين تستخرج منها أرقى العطور، من البديهي أن تترك تأثيرا على طبيعة الانسان وعلى الشعور والذاكرة الجمعية".