1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

من ذاكرتي: ليبيا بين عصرين

٣٠ يونيو ٢٠١١
https://p.dw.com/p/RWfZ
القذافي متشبث بالسلطة حتى آخر قطر دم ليبيةصورة من: AP

يسلط الكاتب عبد المنعم الاعسم الضوء على مقاطع من تاريخ ليبيا تكشف مدى الدمار الذي ألحقه الدكتاتور القذافي بشعب هذا البلد. من خلال محطات وقف فيها الاعسم شخصيا نقرا خلف سطور الإعلام الرسمي للقذافي كيف خرب هذا البلد ولماذا تستمر الثورة على القذافي بالسلاح.

مرة واحدة التقيت دكتاتور ليبيا معمر القذافي، وهي المرة الوحيدة التي زرت فيها “الجماهيرية” لكن ملف هذه البلاد كان رفق اهتمامي اليومي لما يزيد عن ثلاثين سنة عندما زرت ليبيا عام 1978 ، ثم حين عقدتُ وزميلي الصحفي الأردني نصر المجالي حوارا مطولا في إحدى محطات أنفاق لندن مع وريث عرش المملكة الليبية الأمير محمد الحسن الرضا السنوسي، في خريف العام 1991 ونشرناه معا في صحيفة كويتية كانت تصدر في العاصمة البريطانية، وكنا نعمل فيها، آنذاك.

قبل هذا، كنت ضمن وفد شعبي عراقي يزور ليبيا العام 1978 بمناسبة الذكرى الثامنة لجلاء القوات البريطانية من قاعدة طبرق في 28 آذار 1970 وتقع المدينة على بعد ألف وخمسمائة كيلو مترا الى شرق العاصمة طرابلس.

نزلنا من الطائرة في بنغازي، ثم أقلتنا، في الليل، عدة حافلات إلى حيث لا ندري، ولم يخبرنا احد عن المكان الذي نتجه إليه باستثناء القول إننا سنصل قريبا إلى مضافة ما، فيما شغلـَنا الإعياء والنوم عن تكرار السؤال لمرافقينا عن طبيعة هذه المضافة، وبعد أن قطعنا ما يزيد على 450 كيلومترا من بنغازي شارفنا على مدينة طبرق على الحدود مع مصر وظهرت لنا من خواطر فجر يلوح من بين عاصفة رملية حمراء.

توقفتْ الحافلات أمام بناية قديمة قيل لنا أنها فندق وان علينا إنزال حقائبنا ثم العودة إلى الحافلات لأخذنا إلى استقبال رسمي، ثم، وعلى بعد حوالي كيلومترين فوجئنا بسرادق وعرض عسكري على ساحة يحيطها سياج منيع من الأسلاك الشائكة وصفوف متراصة من الجنود، وكان العقيد القذافي يستقبلنا واحدا واحدا ويُجلسنا في الصف الذي يليه، وسط طوق كثيف ومستنفر من الحماية، وكان مكاني الأقرب إليه من بين أعضاء الوفد، ولهذا كنت تحت مراقبة شديدة من عدد رجال الحماية. ضايقني ذلك فيما كان العقيد قد التفت اليّ مرتين، ليحدثني عن بشرى “الوحدة” والانتصار على أمريكا قريبا ولم اسمع بقية كلامه لأن صوت المذيع الذي ينقل وقائع الاستعراض العسكري لم يترك لنا بصراخه المتواصل والمتصاعد فسحة لنسمع شيئا آخر، ولاحظت أن القذافي كان يزوّده بقصاصات من الورق يكتب عليها شعارات يشتم فيها الاستعمار ويتوعد العملاء ويبشر المستمعين بفجر جديد على يد هذا الجيش، وكان المذيع يقرأها بصوت مبحوح وأكثر هياجا، يثير جذل العقيد الذي يبدو كطاووس وسط هذا المشهد.

وشاءت العاصفة الرملية أن تلقي بخيمتها الحمراء على السرادق وساحة العرض وحركات الطاووس، وقد رصدتُ من مكاني محاورة كانت تجري بين رئيس الأركان الخويلدي والقذافي حول عرض لجنود المظلات إذ كان الخويلدي يبدي معارضته لفكرة الإنزال الجوي بسبب العاصفة الجوية لكن الطاووس يصر عليه بالرغم من الأخطار المحدقة بحياة الجنود المظليين، وهكذا اختتم العرض الجوي بمجزرة قتل وأصيب فيها أكثر من عشرين مظليا أخذت بهم العاصفة الهوجاء إلى الأسلاك الشائكة الفتاكة، وفي اليوم الثاني خرجت الصحف بتحقيقات عن “اليوم البهيج” الذي رعاه “القائد” وأرسل منه تهديدات شملت عواصم عربية وأجنبية بالجملة.

أعادونا إلى مدينة بنغازي، وفيها قرأنا على بعض الجدران شعارات مناهضة تقول: أوقفوا نبش قبور محرري بلادنا من الاحتلال، وبنغازي لن تحتملكم طويلا.وبعد 33 سنة ضاقت بنغازي ذرعا بالطاووس، فسبقت المدن إلى العصيان.

ليبيا : تاريخ صنعته الحروب

كانت هذه البلاد، يوما، ملتقى العالم ومحطة استراحته. سكنتها قبائل البربر منذ آلاف السنين، ووصلتها موجات الوندال والرومان، ثم العرب وخيول المسلمين، لتترك على أرضها، جميعا، بصمات حضارة عظيمة، قبل أن يقطع الطليان وغزاة صحراويون أجمل رؤوس الأيقونات وتماثيل المحاربين، وحين زرنا في طرابلس احد بقايا الملاعب الرومانية كان مرافقـُنا الحكومي يقرأ ورقة أمليت عليه من الجهات الرسمية تقول أن ثورة القذافي أنقذت ما تبقى من هذه الحضارة، فابتسمنا لهذه النكتة البائخة.

وطوال عهود وعهود بقيت ليبيا راسخة العمود بين البحر والصحراء، فسجلت في تقويمها اسم القائد الوطني عمر المختار الذي اجترح مأثرة المقاومة والاستشهاد ضد الاجتياح الطلياني في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وشاءت، بعد ذلك، أن تكون ميدانا للحرب العالمية الثانية وساحة لتجمّع جيوش الشرق الاوسط، فدارت على تخومها المعارك الضارية، ودفن في رمالها الآلاف من الجنود والقادة العسكريين، ودخلت في ذاكرة قادة الجيوش المتطاحنة ومذكراتهم.. مونتوغمري وتشرتشل وآخرون.. أما ستالين فقد طالب الأمم المتحدة ودول التحالف المعادي للهتلرية المنتصرة بوضع إقليم “تريبوليتانيا” الذي يضم ليبيا وبعض الخواصر الجغرافية في وسط أفريقيا تحت الانتداب السوفيتي المؤقت، لكن الحلفاء وقفوا ضد هذا الطلب، وفضلوا أن يتقاسموا البلاد بعد أن عرفوا أنها تضم في باطنها بحارا من النفط الخام، وذلك قبل أن تدور رحى التاريخ فينقلب الليبيون على مستعمريهم، وينالوا استقلالهم ويؤسسوا مملكة دستورية بقيادة الملك إدريس السنوسي العام 1951 .

للطغاة سمات مشتركة

ابتدأ عهد القذافي في ليبيا بانقلاب العام 1969 فشن هجمة مثيرة للاشمئزاز على قبور رموز الزعامات السنوسية، ومنهم مؤسس المملكة محمد علي السنوسي ورميها في الصحراء، ولم تسلم من النبش قبور النساء السنوسيات وشاء ابن القذافي “سيف الإسلام” أن يعترف بهذه الفعلة الشنعاء خلال متابعة تلفزيونية في يناير العام الماضي خلال زيارته لمدينة الجغبوب، وفـُهم من هذه المتابعة إن “ثورة الفاتح” عاقبت هذه المدينة التي تضم مزارات السنوسيين وقبورهم بالإهمال والعزل لمدة أربعين عاما، وشمل العقاب تهديم المنارة الأثرية وتدمير مكتبة المدينة التاريخية وقطع مجاري المياه واعتبار سكانها مواطنين من الدرجة الثانية، فضلا عن النهب المنظم الذي تعرضت له المدينة من قبل متنفذي المؤتمرات الشعبية (حزب القذافي) ومن بين تلك المنهوبات “ثريا” كان قد أهداها موسوليني لحاكم المدينة الايطالي، غداة اندلاع الحرب العالمية الأولى.

لم يشهد العالم زعيم دولة استهتر بالحدود والسيادات وضوابط العلاقات بين الدول وبأرواح المدنيين باسم الثورة مثلما شهده من القذافي طوال عقدين من السنين، إذ وظـّف مليارات الدولارات هي موارد بلاده من النفط لرشوة سياسيين ومنظمات ومسؤولين كبار لخدمة أعمال همجية استهدف طائرات مدنية وسفارات وملاهي وشخصيات مهاجرة كانت عواصم كثيرة في العالم مسرحا لها، وحين حل الحساب عرض على دول الغرب، وبكل صفاقة وذل، مليارات أخرى من الموارد عربونا لبقائه على رأس السلطة وقبولا بالتزامه احترام “لعبة الأمم” ولم يكن ليعرف ان كل هذا المسلسل كان يجري أمام الشعب الليبي بالتفصيل المثير للغضب والاستياء، حتى حدث ما حدث.

شارك الأمير محمد السنوسي، مرة قبل أكثر من عام، في تظاهرة بلندن ضد انتهاكات الحقوق المدنية في ليبيا، ثم قلتُ له: يبدو ان الشعب الليبي استسلم لمشيئة القذافي. قال: هكذا يعتقد هو. صدقني أن مفاجأة ليبية في الطريق.

محاولة لمحو تاريخ الطائفة السنوسية

تفنن القذافي في ايذاء الطائفة السنوسية وأتباعها من الأسرة الملكية التي كانت رمزا لاستقلال ليبيا. السنوسية حركة إسلامية إصلاحية، اتخذت السلوك الصوفي طريقا لترويج رسالتها القائمة على "العرفان والعلوم والصلاح" وقد انتشرت في العمق الصحراوي الأفريقي حين تبنت تهدئة الصراعات بين الأقوام المتحاربة والصلح بينها والعودة إلى الإسلام الأول وإنهاء حروب النهب والتنكيل ودورة الانتقامات والتقريب بين الطوائف المتقاتلة وشعارها الآية: "وأن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" التي أصبحت دستورا للحركة، وكانت دور العبادة التي شيدتها باسم "الزوايا" بمثابة معاهد للعلوم وإحياء قيم الإسلام الأول واستعادة صفات العفة والمسالمة والصلاح للشخصية الإسلامية.

وليس من دون مغزى ان يعترف الساعدي القذافي (ابن الطاووس) مؤخرا بان السنوسية جزءا اساسيا من تاريخ ليبيا الحديث. وتنبغي الاشارة هنا الى ان الحكم السنوسي اسس اول ملكية دستورية برلمانية في العالم العربي، وكانت أول جماعة اسلامية دعت الى منع دور العبادة في التدخل بالسياسة وشؤون الحكم، وفي خلال حكمها من 1951 حتى 1969 لم يتدخل ملكها في شؤون الحكومة والبرلمان والأحزاب، ولم يتمتع بامتيازات مواطنة إضافية، حتى أن آخر ملوكها لم يجد بدا من ان يهجر الحكم ويستقيل مفضلا قضاء ما تبقى له من العمر في التعبد.

استدراك: في حافظتي عن العهد الملكي الليبي وجدت معلومة موثقة تفيد بان الملك السنوسي عين في منتصف الخمسينات الضابط العراقي (الشهيد) داوود الجنابي مستشارا عسكريا له.

القصة الحزينة للأسرة المالكة ليبيا

أقول، لم يوفر القذافي فنا في الإيذاء إلا واستخدمه في مطاردة الأسرة السنوسية الملكية والتنكيل بها ، فاعتقل ولي العهد الحسن الرضا السنوسي لسنوات طوال من غير محاكمة وصادر منازل سكنها وألقى بها إلى العراء فاستضافها محسنون في منازلهم وسهلوا لها الفرار من الجحيم تباعا، ثم ادخل ملاحقة من تبقى من أفرادها في الخارج في قائمة المطلوبين للاغتيال سوية مع أسماء ما يزيد على ألفين ممن اعتبروا أعداء قيد القصاص الإرهابي من الجماعات والشخصيات والسفارات والدول ينتشرون على رقعة واسعة من العالم.

الى بريطانيا وصل ولي العهد مريضا، وفيها توفى في مطلع التسعينات، وكان وريث العرش ابنه الشاب الأمير محمد جارا لي في حيّ بوسط لندن، وسنحت الفرصة لالتقيه مرات عدة واعقد معه حوارات ولقاءات صحفية وعامة، ولما لم استرخصه في الحديث عن حياته ومعلوماته فاني استطيع القول، بإيجاز، إن الأحداث الليبية العاصفة (وهكذا اعتقد) لم تفاجئه تماما، وكان يعرف عن كثب ومنذ زمن طويل بان جرائم القذافي الإرهابية والدموية الخارجية التي يعرفها العالم ليس سوى فاصلة معلنة عن الجرائم التي يرتكبها ضد الليبيين في الداخل، وان الإذلال اليومي الذي يعانيه الليبيون في ظل حكم الحلقة الضيقة المستهترة لأسرة القذافي سينفجر عن انتفاضة تطيح بهذا النظام إلى الأبد.

*

قبل ايام ظهر السنوسي على واجهات التلفزة ليكتفي بالقول "لقد تعب الليبيون من الحرب.. ليس المهم شكل الحكم".

عبد المنعم الاعسم

مراجعة ملهم الملائكة