1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

رشا حلوة: برلين مدينة يسكن فيها العالم كله، وكذلك لا أحد

٧ يونيو ٢٠١٧

في أول مقال* لها على DW عربية تروي المدونة والكاتبة الصحافية الفلسطينية رشا حلوة تفاصيل قصة "خلوتها" الليلية مع مدينة برلين وماذا اكتشفت عن حياة المدينة التي تقيم بها حديثا.

https://p.dw.com/p/2eBVL
arabisch Kolumnistin Rasha Hilwi
صورة من: DW/Rasha Hilwi

عند نهاية نيسان/ أبريل الماضي، سافرت من برلين إلى عكّا لبضعة أيام، وعندما وصلت، ومن ضمن القصص التي أخبرت بها أمّي، قلت لها بشكل عاديّ جدًا بأنني في طريقي للمطار ببرلين، مشيت في الشّارع وحدي عند الرّابعة صباحًا. عادة، نخبئ عن أمهاتنا قصص المشي ليلًا في شوارع المدن عامّة، وفي شوارع المدن "الغريبة" عنهن بشكل خاص.

أذكر جيدًا حين وصلت برلين لأوّل مرة في العام 2008، وكانت هذه أيضًا المرة الأولى التي أصل فيها أوروبا، مشيت لوحدي في الشّارع فجرًا. كنت مع أصدقاء في حفلة، وأردت العودة إلى المنزل قبلهم، فكان الحلّ الوحيد هو أن أمشي وحدي مدة 20 دقيقة، بلا أن ألتفت حولي خوفًا من شيء. كنت عندها في الرابع والعشرين من عمري. وبكيت عندما وصلت هدفي. لم أستوعب عندها، كما أمّي التي أخبرتها قبل أيام بأنني أمشي ليلًا وحدي في شوارع "غريبة"، بأنني مشيت بلا شعور بالخوف.

أمشي في شوارع عكّا مدينتي كما أمشي في برلين، والفكرة ليست متعلقة بالخوف من ما تجلبه العتمة، بقدر ما هو خوف من ما يمكن أن تجلبه المدن التي لا نعرفها ولسنا معتادين على نمط حياتها. بالمقابل، لا من مدن آمنة اليوم، نكاد نشعر بأن الأمان ينتمي إلى زمن لا نعرفه، حدثتنا عنه جدّاتنا يومًا ما، لكن هنالك مدن احتمالات الأمان الفرديّ فيها أكبر، كأنها تخفف عنكِ حمل التفكير بالآخرين. وبرلين، هي إحدى تلك المدن.

منذ زرتها لأوّل مرة قبل 9 أعوام، أردت أن أعيش فيها. ما بين محاولة بسيطة غير جديّة عندها، وبين رغبات متكررة بعد كل زيارة لها، سحبتني الحياة إلى تأجيل هذه الخطوة. خلال العام 2016، حصلت على إقامة في الصّحافة الثقافيّة من "أكاديميّة العزلة" في مدينة شتوتغارت استغرقت خمسة شهور، خلالها كتبت عن حضور الثقافة العربيّة في ألمانيا عامّة وبرلين على وجه الخصوص، من خلال تغطيّة نشاطات ثقافيّة وفنّية وكذلك من خلال قصص الناس. قضيت وقتًا طويلًا في برلين، أعيش وأسمع وأكتب بين وعن الناس، وكانت برلين التي رأيتها تختلف عن برلين التي زرتها لأوّل وثاني مرة، أصبحت مدينة تحتضن ثقافات عربيّة بكامل تنوعها وكذلك ثقافات العالم كلّها في مكان واحد، وكلما مشيت في شوارعها وتنقلت بمواصلاتها العامّة أو جلست في قهوة، سمعت لغات العالم وقصصه.

من أكثر المشاهد التي تثيرني هي كيف يخلق الناس فضاءاتهم الخاصّة والآمنة والتي تشبههم. ليس بالضرورة أن تكون هذه الفضاءات فيزيائيّة، فبكثير من الأحيان نخلق فضاءاتنا من الناس. خلال العام الماضي، كنت مبهورة من تشابه شكل سهراتنا، نحن الشّباب في برلين، والقادمين من سوريا ولبنان وتونس، مع شكل لقاءات وسهرات جيل أقدم من المهاجرين العرب في المدينة. كلا الجيلين، وقبل منتصف الليل، بدأت بغناء جماعيّ لأغاني تراثيّة وكلاسيكيّة قديمة. ويمكن أن يكون المشهد ذاته الذي كان في مطعم العمّ خليل في برلين، وفي أحد بيوت الأصدقاء هنا، هو ذاته في دمشق وبيروت ورام الله. اعتقدت أن هذه المشاهد محصورة على الثقافات العربيّة، وكما تفعل برلين دومًا، تفتح لي شبابيك على قصص أخرى من مناطق في العالم، فهذه المشاهد هي ذاتها في اسطنبول وباكو وروما.

ففي إحدى أمسيات الجام الموسيقيّة (والجام هو ارتجال موسيقيّ لمجموعة من الموسيقيّين)، وهي أمسية أسبوعيّة تُقام في مكان يسمى "المساحة" في برلين، كان معظم الجمهور من جورجيا، أذربيجان وتركيا. وقبل منتصف الليل بقليل، بدأ جميعهم بغناء أغانٍ تركيّة كلاسيكيّة قديمة. عندها علمتني برلين بأنه على ما يبدو أن العودة إلى البيت البعيد لدى الجميع هي على نفس الرحلة: الغناء الجماعيّ.

إلى جانب الكتابة والعمل بالصحافة الثقافيّة، ألعب الموسيقى كـ دي جي منذ حوالي عامٍ، بداية، اكتشفت حبّي لهذه المهنة من خلال حفلات الأصدقاء الصغيرة في البيوت. ومع الوقت، وخاصّة خلال إقامتي في شتوتغارت، شعرت بالمتعة التي تجلبها هذه الوظيفة؛ الفكرة أن تضع موسيقى وأغانٍ جميلة للناس وترى سعادتهم من خلال الرّقص. في عكّا وحيفا ورام الله، كنت أشغل بالأساس موسيقى عربيّة بكامل تنوعها، اليوم، ومن خلال اللقاءات التي منحتها بداية شتوتغارت ومن ثم برلين مع أفراد من كل العالم، كان كل صديق وصديقة منهم بمثابة شباك على أغانٍ وموسيقى من بلده وثقافته وذاكرته الفرديّة والجماعيّة. عند مساء الأثنين الماضي، لعبت دي جي لأوّل مرة في برلين، وكانت الموسيقى من باكستان وسوريا ومصر وتونس وإسبانيا... تمامًا كما ألوان برلين.

اعتدتُ السّفر كثيرًا وأحبّه. انتقلت من بيتنا في عكّا عندما كنت في الثامنة عشر من عمري لأعيش وحدي في القدس وحيفا ورام الله لسنوات طويلة، كما سافرت إلى أماكن كثيرة. علمني السّفر حرفة ركل الأمان الذي نعتاد عليه، ذاك الأمان المريح، والبحث عن فضاءات آمنة جديدة، في غالبها مليئة بالتحدي، لكن يبقى السّفر رياضة القلب والمعلّم المرافق دومًا لمن أكون. قبل الآن، لا من مدينة، عدا عن مدني الأولى، أردت أن أعيش فيها ونجحت، لظروف خارجة عن سيطرتي ورغبتي الفرديّة، إلًا برلين، المدينة التي احتمالات الأمان فيها، هي أيضًا احتمالات، والعتمة تشبه كل عتمة المدن، لكن فيها يسكن العالم، وبنفس الوقت تزيل عنكِ حمل التفكير بالآخرين، كأن لا أحد يسكنها.

 

الكاتبة: رشا حلوة 

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة رأي مؤسسة DW.

تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد

اكتشاف المزيد