الجيش الألماني بعد الوحدة – تراجع في العدد ومهام كثيرة
٢٨ سبتمبر ٢٠١٥رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر كانت أول من حذر من إعادة توحيد ألمانيا عام 1990. حيث كانت تحت تأثير انطباعاتها عن ألمانيا التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية، واحتمال سيطرتها على أوروبا من جديد. وعبرت عن مخاوفها تلك في حوار مع مجلة "شبيغل" الألمانية عام 1993 معتبرة أنه، حينما تصبح ألمانيا أكبر واقوى اقتصاديا من بريطانيا وفرنسا، فإن ذلك سيخل بتوازن القوى في أوروبا.
نهاية الجيش الشعبي
شكوك تاتشر حول قوة ألمانيا العسكرية كانت تراود الفرنسيين أيضا. ففي عام 1990 كان عدد أفراد جيش ألمانيا الغربية 585 ألف جندي أما عدد أفراد "الجيش الشعبي" في ألمانيا الشرقية فقد بلغ 90 ألف جندي. لكن حكومة بون (عاصمة ألمانيا الغربية آنذاك) كانت متشككة جدا من جيش ألمانيا الشرقية وغير واثقة منه ولذلك فلم تكن تود إدماج أفراده في صفوف قوات جيش ألمانيا الاتحادية. وقد تم حل جيش ألمانيا الشرقية مباشرة بعد توحيد شطري البلاد عام 1990. كما استلم ضباط من جيش ألمانيا الغربية قيادة كل المواقع العسكرية في ولايات ألمانيا الشرقية السابقة، فتم تسريح كل الجنرالات والقادة العسكريين وكبار ضباط جيش دولة ألمانيا الشرقية، كما عملوا على إدماج عدد قليل فقط من جنوده في صفوف جيش ألمانيا الاتحادية، ولكن بعد فحص دقيق لهم.
توجه جديد للجيش الألماني
من خلال اتفاقية 2+4 حول إعادة توحيد شطري ألمانيا تم تحديد عدد أفراد الجيش فيها بـ 370 ألف جندي فقط، فبدأت عملية تقليصه، وفي الأعوام التي تلت الوحدة تم تدمير آلاف القطع الحربية والمدرعات التي كان من المفترض أن تتصدى لأي هجوم محتمل على ألمانيا الشرقية السابقة، حيث أصبحت ألمانيا الجديدة بعد الوحدة محاطة بأصدقاء ولزمها نهج استراتيجية جديدة مع انهيار جبهة شرق أوروبا وبروز صراعات أخرى في غيرها من مناطق العالم مثل منطقة الخليج أو البلقان.
وسريعا ما طالب الحلفاء من ألمانيا المشاركة في عمليات عسكرية خارج البلاد. لكن الدستور الألماني كان يحصر مهمة الجيش داخل البلاد فقط، وكان هناك خلاف حول شرعية المشاركة في عمليات عسكرية خارج الأراضي الألمانية. وفي عام 1994 تدخلت المحكمة الدستورية وقضت بشرعية مشاركة الجيش الألماني في عمليات عسكرية خارج البلاد، بشرط أن يتم ذلك في إطار المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو حلف الناتو ووجوب موافقة البرلمان على تلك العمليات الخارجية. وهكذا بدأ توجه جديد في السياسات الخاصة بجيش جمهورية ألمانيا الاتحادية.
العمليات الخارجية وما ينتظره الحلفاء
في السنوات التالية للوحدة بدأت ألمانيا وبشكل تدريجي في التخلي عن موقفها المتحفظ من خلال المشاركة في مهام عسكرية دولية في البلقان وأفريقيا وأفغانستان. وتقول كلاوديا مايور، الخبيرة في الشؤون العسكرية والباحثة في معهد دراسات الأمن والسياسة في برلين، أنه لم يكن أحد يتصور قبل 25 عاما أن الجيش الألماني سيشارك في مهام عسكرية. لكن اليوم لا أحد من جيران ألمانيا ينظر إليها كعنصر تهديد وإنما كشريك يمكن الاعتماد عليه وينتظر منه العديد من المشاركات والمساهمات في المهام والتدخلات العسكرية. وفي نفس الوقت لايزال هناك في ألمانيا تحفظ عندما يتعلق الأمر بالتدخل أو القيام بمهام عسكرية، حسب الباحثة مايور التي تعيد ذلك إلى أسباب تاريخية ، لأن "التاريخ كان معلما جيدا بالنسبة لألمانيا".
وبالنسبة للحلفاء لم يعد هناك سبب لبقاء ألمانيا في الصف الثاني فيما يتعلق بالمهمات العسكرية، وقد عبر عن ذلك وزير خارجية بولندا عام 2011 بقوله "إن تخوفي من عدم تحرك ألمانيا أكثر من تخوفي من قوتها". وهذا يدل على أن بولندا ودول شرقي أوروبا تتمنى أن يكون هناك جيش ألماني قوي لا يتردد في الدفاع عن الحلفاء. وقد ساهمت الأزمة الأوكرانية في تعزيز هذه النظرة تجاه ألمانيا وبالنظر إلى دور جيشها في أوروبا.
في حين تنتظر فرنسا الجارة الغربية من الجيش الألماني التزاما أقوى ولعب دور أكبر في أفريقيا. وفي هذا السياق يقول المحلل السياسي والباحث في جامعة السوربون، هانز شتارك "فرنسا تريد مشاركة ألمانيا في المهام العسكرية في أفريقيا والشرق الأوسط" ويشمل ذلك مهمات قتالية و "إرسال قوات برية وليس قوات حفظ سلام فقط". ويقول شتارك إن فرنسا لا تتخوف من الجيش الألماني ولا ترى فيه تهديدا لأنها تعتبر أن جيشها أقوى من نظيره الألماني. بل حتى إن فرنسا ترى وجود تناقض بين الطاقة الاقتصادية لألمانيا وقوتها العسكرية. ويشعر الفرنسيون بخيبة أمل من بلد قوي مثل ألمانيا لا يتحمل إلا القليل من المسؤولية تجاه السياسة الأمنية والدفاعية. و يوضح خبير العلاقات الفرنسية الألمانية هانز شتارك "فرنسا ترى أن ألمانيا لا تقوم بما فيه الكفاية في إطار حلف الناتو ولا ضمن الاتحاد الأوروبي أيضا".
مدح أمريكي للجيش
وكيف تنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى السياسة الأمنية لألمانيا بعد مرور 25 عاما على الوحدة؟ في واشنطن هناك مدح لتطورات الجيش الألماني الذي تحول من جيش دفاعي في زمن الحرب الباردة إلى جيش حديث يشارك في المهام العسكرية. لكن واشنطن تعول على لعب ألمانيا دورا قياديا في أوروبا "فحين تكون ألمانيا جزءا من التحالف أو من عمليات مشتركة، تكون هناك مصداقية أكبر" حسب سوهدا ديفيد ويلب، خبيرة العلاقات عبر الأطلسي لدى مؤسسة مارشال الألمانية في برلين، وتضيف بأن "ألمانيا تتمتع بسمعة جيدة في الكثير من دول العالم".
لكن لعب دور قيادي له ثمنه أيضا، حيث يجب على الحكومة الألمانية زيادة نفقاتها العسكرية، وهذا ما طالب به وزير الدفاع الأمريكي اشتون كارتر أنثاء زيارته لبرلين في يونيو/ حزيران 2015. إذ لاتزال ميزانية الدفاع الألمانية في أقل من 1,2 بالمائة من إجمالي الناتج القومي، في حين تنص وثائق حلف الناتو على ضرورة تخصيص 2 بالمائة من إجمالي الناتج القومي لميزانية الدفاع. كما إن طائرات النقل العسكرية والمروحيات التي تحتاج للصيانة الدائمة والرشاشات السيئة، لا تعتبر أجهزة مناسبة لوجود شراكة عادلة مع الحلفاء، حسب المراقبين.
تنامي عدد الأزمات الدولية وما ينتظره الحلفاء من ألمانيا، دفع ببرلين لمراجعة دورها وإعادة النظر في سياستها، إذ إن "النأي بالنفس" ليس خيارا، وقد اتضح ذلك من خلال ردود الأفعال السلبية الغاضبة على موقف ألمانيا وامتناعها عن التصويت في مجلس الأمن الدولي عام 2011 بشأن التدخل العسكري في ليبيا.
الآن أصبح واضحا أن الحكومة الألمانية قد غيرت من سياساتها وتود تحمل مسؤولياتها الدولية بشكل أكبر، وقد أثبتت ذلك من خلال تعاملها مع الأزمة الأوكرانية، حيث لم يكن ذلك من خلال الدبلوماسية فقط وإنما أيضا عسكريا من خلال تقوية وتعزيز دور حلف الناتو في شرق أوروبا.