1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

فرانكشتاين في بغداد.. خزَان الأشكال السردية

زهور كرام١٣ مايو ٢٠١٤

بغداد وما تعايشه من غياب للأمن والتفجيرات والموت الذي ينتظر سكان العاصمة في كل زاوية وفي كل شارع، أوحت للكاتب العراقي أحمد سعداوي بفكرة روايته "فرانكشتاين في بغداد" التي فازت بجائزة بوكر العربية للرواية لعام 2014.

https://p.dw.com/p/1Byxj
Blick auf den Tigris
صورة من: DW/B.Svensson

فالشسمه مصنوع من بقايا أجساد لضحايا، مضافا إليها روح ضحية، واسم ضحية أخرى. إنه خلاصة ضحايا يطلبون الثأر لموتهم حتى يرتاحوا. وهو مخلوق للانتقام والثأر لهم'(ص 144). قد يختزل هذا المقطع السردي حكاية رواية الكاتب العراقي أحمد سعداوي "فرانكشتاين قي بغداد" الفائزة بجائزة "البوكر" 2014، غير أن تدبير السرد، وطريقة تصريفه، يجعل الحكاية تغادر أفقها المعلن عنه بشكل مباشر، والمتمثل في تحقيق العدالة، والثأر لضحايا التفجيرات في بغداد، وتنفتح على أسئلة أكثر تعقيدا.

تبدأ الرواية حكيا شفهيا من خلال ساردها الأول ‘هادي العتاك'، الذي يحكي لزبائن مقهى عزيز المصري حكاية الجثة التي ركَبها من شظايا الجثث التي تطايرت بفعل قوة التفجيرات التي عرفتها بغداد شتاء 2005. ‘سيروي هذه التفاصيل لاحقا ويعيد سردها أكثر من مرة، فهو مغرم بالتفاصيل التي تجعل قصته متينة ومؤثرة أكثر. سيحكي عن يومه العصيب هذا، بينما الآخرون ينصتون لحكايته باعتبارها أفضل القصص الخرافية التي رواها هادي الكذاب حتى الآن'(ص 70)، ثم تنتقل الحكاية الشفهية إلى سرد مكتوب من طرف السارد الرئيسي لـ'فرانكشتاين في بغداد'، والذي يلتقط الحكاية، ويحوَلها إلى محكي سردي، سرعان ما تنزاح عنه، وتتحول إلى حكاية مسموعة عبارة عن مجموعة من الملاحظات التي كان يسجَلها الصحفي محمود في مسجله الديجتال، بعد أن أجرى حوارا على شكل تحقيق مع مبدع الحكاية ‘هادي العتاك'، ‘ سجل محمود هذا الكلام على مسجلته الديجتال، وهو يعرف أنه يقوم بتعديل كلام هادي المنقول على لسان الشسمه وأنه يضفي تفسيراته الخاصة أيضا'(ص145). ثم ينقل التسجيلات من المسجلة إلى الحاسوب، ثم إلى فلاش ميموري. ينتقل بالحكاية التي بدت له مثيرة من وسيط إلى آخر تحسبا لفقدانها. كما تتحوَل الجثة/الشسمه نفسها إلى راوية، عبر تسجيل الحكاية صوتيا (الفصل العاشر)، جاءت على شكل بيان يعبَر فيه الشسمه عن مشروعه في إعادة العدل، والانتقام لضحايا التفجيرات. ثم تتحول إلى تجل إلكتروني فعرض تلفزيوني يتابعه العميد سرور. تخضع قصة الجثة المركبة إلى انتقالات وسائطية سردية، تجعل الحكاية تعيش التحول المستمر في بنائها ومنطقها، وتتخلى تدريجيا عن وهم الحكاية المباشرة. ذلك، لأنها تصبح مثل كرة الثلج، تكبر كلما انتقلت إلى وسيط سردي، يجعلها داخل نظام جديد، مع احتفاظها بذاكرة نظام الوسيط السابق. لهذا، نلتقي بتقنيات وأساليب مجمل الوسائط التي عرفتها حكاية الشسمة، وهي تتجلى سرديا في الرواية. نلتقي بتقنية العنعنة كما عرفها التراث الشفهي، وتقنية الاستنطاق البوليسي، والتحقيق الصحفي، وأسلوب الاعترافات، إلى جانب أساليب السخرية والغرائبية والعجائبية. غير أن هذا التنوع المتعدد لأساليب وتقنيات الوسائط السردية للحكاية، يحضر بشكل وظيفي من خلال تجاوز سياق انتمائه، وانفتاحه على سياقه الروائي. فتقنية العنعنة لا تحضر باعتبارها حاضنة للأصل في القول، وموثقة لفعل السند، إنما تحضر في إطار تجاوز مفهومها التراثي، وانفتاحها على الروائي الذي يجعل الحكاية تغادر فكرتها، أو أصلها.

Irak Selbstmordanschlag in Bagdad 21.04.2014
التفجيرات وأشلاء الضحايا ألهمت سعداوي بقصة روايته فرانكشتاين في بغدادصورة من: AFP/Getty Images

تعددية الوسائط السردية

تعيش الحكاية حالة التحول المستمر بفعل الوسيط المتغير في بنائها. وبهذا الشكل، فإن الحكاية لا تنتمي إلى الشكل المألوف في السرد الأفقي الذي يهيمن عليه ضمير الغائب، والذي يقدم حكاية مكتملة، على القارئ تلقيها في وحدتها المسرودة، أو السرد العمودي الذي عرفته الرواية التجريبية، المعتمدة على تعددية السارد، وعلى الحكاية المتشظية، التي تفترض قارئا مؤهلا لإعادة جمع أشلاء الحكاية، ومنحها بناء منظما. الذي يحدث في ‘فرانكشتاين في بغداد' أن الحكاية تبدو – في الظاهر- مكتملة ، خاصة مع وجود سارد بضمير الغائب، وشخصية تعلن في البداية عن كونها صانعة الحكاية غير أن نظام سرد الرواية، يؤسس لشكل جديد في التعامل مع الحكاية. يتعلق الأمر، بمنطق الترابطي الذي ينتج نص الرواية. وهو منطق يجعل الحكاية موجودة وغير موجودة. لأن تحققها النصي ينتجه قارئ، لا يكتفي بالقراءة الأفقية، أو بإعادة كتابة حكاية موجودة مسبقا، إنما ينتج النص المحتمل للرواية.

تنتج تعددية الوسائط السردية، وتعدد أشكال الرواة (شفهي، مكتوب، تقني، صوتي، مشهدي..) حوارية بين الأساليب، تدعَمها طبيعة الرؤية السردية التي جاءت نتاج تفاعل وظيفي بين السارد الذي يسرد ما تراه الشخصية. تنبني الرؤية في' فرانكشتاين في بغداد'على موقع من يرى ومن يسرد. وموقع الشخصية من الحدث المنظور إليه هو المحدد الأساسي لشكل الرؤية في الرواية. فالسارد يسرد ما تراه الشخصية من وقائع التفجيرات والملاحقة الأمنية. يسرد السارد مثلا ما يراه الشحاذ العجوز عندما جاء الأمن يبحث عن ‘فرج الدلال':’ في الأعلى، ومن البيت المتهالك العتيق المقابل للبيت الذي يسكنه الشحاذون، حيث النافذة الخشبية المطلة تماما على موقع الجثث الأربع، كان شحاذ عجوز ينظر إلى ما يجري من دون أن يظهر منه شيء لمن في الزقاق.كان ها هنا ليلة أمس حين وقعت الجريمة.’(ص81). تهمين صيغة هذه الرؤية على الرواية، فتنتج حوارية بمستوى تعدد الأصوات كما طرحها الناقد ميخائيل باختين، والتي تتشكل بين خطاب السارد وخطاب باقي الشخصيات، أو بين خطابين داخليين للشخصية الواحدة كما وجدنا في تسجيل الشسمه الذي جاء على شكل بيان، حيث انشطرت فيه شخصية الجثة إلى ذاتين متحاورتين.

Irak Handwerk Kunst
رغم التفجيرات والموت الذي ينتظر سكان بغداد في كل أسواق وشوارع المدينة، يحاولون ممارسة حياته اليومية بشكل طبيعيصورة من: Awad Awad/AFP/Getty Images

الخطاب السردي يخترق رتابة الحكاية

تتم الرؤية بوجهة نظر. لهذا، نحن لسنا أمام حكاية واحدة، إنما حكاية متعددة التجليات. ومنطق تدبير نظام الحكاية يصبح هو الأساس وتصبح حكاية ‘الجثة' أو ‘فرانكشتاين في بغداد' حكاية وسيطية، تشتغل باعتبارها مجرد وسيط ليس إلا، ويصبح الوعي بنظام تجليها، هو جوهر البحث الفلسفي في الرواية. هادي لم يكن إلا مجرد وسيط أو بتعبير الجثة/الشسمه ‘ممر' يقول الشسمه:’ أنت مجرد ممر يا هادي.(….) أنت مجرد أداة'(ص142).

قد تبدو حكاية الرواية رتيبة، أفقية الحكي، مرتبة وفق ضمير الغائب، غير أن الخطاب السردي يخترق رتابة الحكاية، ويكسر أفق انتظار متلق الحكاية بضمير الغائب، لأن كل شيء يعرف التحول بدءً من منطق الحكاية، إلى شخصيات الرواية. فشخصية هادي العتاك تتحول من الذات المنتجة للحكاية إلى موضوع الحكاية، والشسمه من موضوع الحكاية إلى الذات الساردة لحكاية الرواية، ومن المنتقم للضحايا إلى قاتل الأبرياء، والصحفي محمود من الباحث عن تحقيق العدالة إعلاميا إلى العبور إلى الضفة الأخرى، حيث موت الشعور بنداء الضمير، و العجوز من الأم المنتظرة عودة الابن دانيال المفقود إلى مانحة التعريف للجثة، والقطة التي لازمت العجوز في بيتها العتيق، تتحول من مجرد حيوان أليف إلى ذاكرة للمكان، وزمن لتوثيق التاريخ ضد المحو والنسيان، ثم القارئ من مجرد متلق للحكاية إلى منتج لها، من خلال المنطق الترابطي لشكل الحكاية، ونوعية الأسئلة التي يقترحها على الحكاية.

الشسمه أو الجثة المركبة من أشلاء ضحايا التفجيرات، أو فرانكشتاين في بغداد، حكاية الأسئلة الفلسفية التي تعيد للسؤال يقظته، بدعم وظيفي للأشكال السردية التي عرفتها الرواية العربية منذ بداية تكوَنها التاريخي:

‘إن كل شخص فينا لديه نسبة من الإجرام تقابل نسبة معينة من البراءة. ربما يكون من قتل غدرا ودون ذنب شخصا بريئا هذا اليوم، ولكنه كان مجرما قبل عشر سنوات حين ألقى بزوجته إلى الشارع مثلا أو والدته العجوز في دار العجزة، أو قطع الكهرباء أو الماء عن عائلة لديها طفل مريض ما تسبب بموته سريعا..’(’171).

سعداوي (أحمد): فرانكشتاين في بغداد
منشورات الجمل، 2013

المصدر: القدس العربي
http://www.alquds.co.uk

12.05.2014

تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد

اكتشاف المزيد