1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

قصيدة النثر الألمانية ـ ميل إلى النخبوية رغم تجنب صهوة الغموض

رشيد بوطيب٩ ديسمبر ٢٠٠٧

تحتل أسماء كبيرة سماء قصيدة النثر الألمانية، على رأسها لا ريب غونثر كونرت وغونثر آيش وهلغا نوفاك، قصيدة متعددة، متمردة، لا تمتطي صهوة الغموض، حتى وإن كانت لا تختار التوجه إلى جمهور معين ولا تطلب رضا هذا الجمهور.

https://p.dw.com/p/CXWQ
غونثر كونرتصورة من: dpa - Report

"الكتابة: لأن الكتابة لا تمثل شيئا نهائيا، ولكنها تمنحنا حافزا، لأنها بداية لا تتوقف، لأنها بداية أولى، مثل غريزة الجنس أو الشعور بالألم. وكلما استمر المرء في الكتابة، عصم نفسه من الانحطاط وحصنها من الزوال، ولهذا السبب أكتب، لكي أتحمل هذا العالم الذي يتفتت بلا توقف إلى عدم". كلمات لغونثر كونرت من كتابه "أحلام يقظة في برلين وأماكن أخرى".

الشاعر الألماني غونثر كونرت، الذي ولد في برلين سنة 1929، لا يعد فقط من أهم الكتاب الألمان وأكثرهم تعددية ولكن أيضا إلى أكثرهم نقدية. حصل سنة 1962 على جائزة هاينريش مان، وسنة 1985 على جائزة هاينريش هاينه، وبعدها على أهم جائزة أدبية في ألمانيا، جائزة هولدرلين سنة 1991.

القصيدة التي لا تقول شيئا!

Deutschland Literatur Gruppe 47 Schriftsteller Tagung 1952
مجموعة 47: هاينريش بول، إيلز آيشينغه وغونثر آيشصورة من: picture-alliance/ dpa

يرى كونرت أن الشاعر المعاصر لا يكتب لجمهور ولكن فقط لنفسه، وأن الكتابة تنبع من خلل نفسي، لكنها لا تقدم أي نوع من أنواع العلاج. كما يرى أن القصيدة تصبح حقيقية حين يتحول الشاعر بداخلها ويتغير. على الشاعر أن يكتب حالته النفسية، لكن ليس بطريقة مباشرة، والكتابة الأولى هي دائما لاعقلانية، حالة يغيب فيها الشاعر عن نفسه.

إن الشعر أصبح حسب كونرت نخبويا، فالزمن الذي كان فيه الشاعر يلقي أشعاره على الجمهور أو يستظهرها قد ولى، ومن مازال يملك شجاعة القيام بذلك ليس شاعرا. ففي مقاله:"وعي القصيدة" يرى كونرت أن القصيدة لا تعيد إنتاج الوعي الاجتماعي السائد، وليست تعبيرا عن روح زمنها، لأن مثل هذه القصيدة تفنى مع فناء ذلك الزمن أو تلك الروح. إن القصائد التي تبقى هي تلك التي لا تقول شيئا، تلك التي لا يمكن قراءتها. لكن على الرغم من ذلك، يشعر قارئ كونرت كما لو أنه يعرف شخصيات قصائده النثرية، قابلها يوما، أو سقطت عليها عيناه، كما تلك الشخصية التي نصادفها في قصيدته "ذاكرة":

"كان دائما سكرانا، حتى أنه أمكن القول أن لحمه فقط من ظل على قيد الحياة. وحتى هذا أضحى مترهلا وآيلا للتحلل. مرة كان في اسبانيا، حين اشتعل فتيل الحرب هناك. إلى صف الكتائب الحمراء في جبهة الشرعية وضد جيوش الاضطهاد، أنجز أعمالا كبيرة، أطلق النار، أحب وتحمل في ضحك الشيء الكثير. مثل القمر وهو ينبعث من خلف السحب، يتحدث عن ذلك، تلمع عيناه وتتلاشى غشاوة السكر. قبل ذلك لم يكن قد عاش بعد، وبعده لم يعش البتة، فهذا الذي نجا من رصاص الأعداء، أصابه صغار اليومي في مقتل".

كفى ثرثرة!

Autorin Helga M. Novak
هيلغا نوفاكصورة من: dpa

غونثر آيش، المولود سنة 1907، والذي توفي في زالسبورغ سنة 1972، يلتقي في ممارسته وفهمه للشعر مع كونرت، فقد كان دائما ضد النجاح والطبيعة والحضارة، وضد الجمهور، بل وضد نفسه أيضا، هو الذي لم يتوقف عن إنكار ما سبق وكتبه، وكل شكل من أشكال الإجماع، ومع التقدم في العمر أصبح آيش أكثر استغلاقا على الجمهور، متهكما على ما كان يسميه بالحاجيات الحقيرة للجمهور.

لكن رفض آيش لثرثرة العقل التواصلي، ونفوره من "اللغة الموجهة" ليس مجرد اشتغال على اللغة "تخريب أو افتضاض لها من الداخل" إذا اخترنا الكلام بلغة رولان بارت، بل كان ذلك لسان حال جيل كامل من الكتاب، اختار بعد الحرب التحرر من ميراث الحرب الثقيل، وكانت أحد مميزاته التمرد على العالم وعلى أخص خصائصه: اللغة.

"نتانيل"

"الراكب فوق منكبي لا يراه أحد. يملك ساقين أفعوانيتين، لا عظم فيهما، تتقلصان حول عنقي، كلما قمت بشيء لا يحبه. ولهذا السبب لا أذهب البتة إلى المسرح. رن الجرس يوما، كان يقف أمام الباب. ارفعني إليك، قال في صوت باك، وفي سرعة اعتلى منكبي لما بادرت بالانحناء.

يجد المرء في ألف ليلة وليلة أسلوبا يمكنه من التحرر من راكب منكبيه. على المرء أن يسكر وأن يشعره بالغيرة، يريد هو أن يشرب، ثم يرمي به المرء من فوقه. لكننا أصبحنا الاثنين سكرانين، دون أن يخفف من ضغطه العضلي حول عنقي. وبدأنا نغني معا، يخيم علينا نفس الحزن: آه أيها العالم الغادر، يقول، ثم يضغط بسيقانه أكثر حول عنقي. إذا ما تركتني أسقط فسوف تختنق، إنني أعرف حيلك القديمة.

يزعم أن اسمه نتانيل، وعرض علي أن أناديه بـ أنت. لكني أتحدث إليه دائما بـ هو، كما كان يفعل العجوز فريتس مع طحانه. ألا يريد الآن النزول. يجب أن أدخل من باب جد منحدرة. لكنه يكتفي فقط بالضحك في سخف، فالأبواب لا تستطيع شيئا ضده. وإذا ما عدوت لأصطدم بالجدران، فإني لا أؤذي سوى نفسي. ومعسول الكلام لا ينفع شيئا، فهو لا يملك حسا أخلاقيا. اثنان واثنان: خمسة، يقول إذا ما أطل من فوق كتفي في المكتب، ليصيبني بالحيرة. يتوجب علي أن أنجز كل شيء بطريقة خاطئة، وإلا عمد إلى خنقي.

إلى متى سيظل رابضا فوقي؟ أتساءل بكل نزاهة. إنني أملك هنا منظرا جميلا، يقول، فطولك متر وسبعة وتسعون سنتيمترا. هل علي أن أكون فخورا بذلك لأني أعجبه أكثر من الآخرين. أبحث عن رفقة ناس طويلي القامة. هذا طوله متران وخمسة سنتيمترات، أقول، فيرد بالنفي، إنه ليس سليما. ولماذا أكون أنا السليم؟ أتمنى أن لا تلحظ ذلك أبدا، قال نتانيل، وأغمض عينيه وتثاءب. أيريد اللحظة الخلود إلى النوم؟ ينبس: لا تأمل بذلك البتة".