غورباتشوف ـ البطل التراجيدي الذي سمح بتوحيد ألمانيا
٢ سبتمبر ٢٠٢٢"في النهاية، غيّر ميخائيل غورباتشوف العالم بشكل مختلف عما كان يريده"، هكذا علقت صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ" (31 أغسطس / آ ب 2022) على وفاة الزعيم السوفيتي السابق الذي سيظل الألمان ممتنين له، لأنه مكن من توحيد بلدهم، الذي كان مقسما إلى شطرين بين المعسكرين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة.
غورباتشوف كان يسعى إلى عالم مختلف للذي يسعى إلى بناءه فلادمير بوتين. إنه "الشيوعي الذي جعل الوحدة الألمانية ممكنة" وفق موقع "فيلت". موجة من الحزن والتعاطف والعرفان عمت ألمانيا بعد إعلان المستشفى المركزي في موسكو في ساعة متأخرة من من مساء الثلاثاء (30 أغسطس/ آب) وفاة مهندس البيروسترويكا عن عمر ناهز 91 عاما. صحيفة "زودويتشه تسايتونغ" الصادرة في اليوم نفسه، ذهبت في نفس الاتجاه وكتبت "لقد فشل آخر زعيم للاتحاد السوفيتي في نواح كثيرة، لكن الألمان على وجه الخصوص، لديهم سبب ليكونوا ممتنين له، حتى وإن كان قد عدًل عندهم صورة روسيا إلى يومنا هذا".
ويحظى الزعيم السوفيتي السابق بتقدير دولي كبير بفضل دوره الحاسم في إنهاء الحرب الباردة بشكل سلمي؛ ما مكن من انهيار جدار برلين. كما قاد الاتحاد السوفيتي إلى إبرام معاهدات تاريخية مع الولايات المتحدة بشأن نزع السلاح النووي. وعلى المستوى الداخلي، قاد عمليات إصلاح شاملة بهدف بناء الديموقراطية. وفي عام 1990 حصل غورباتشوف على جائزة نوبل للسلام بسبب إصلاحاته الشجاعة، غير أن ذلك لم يمنع من انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي كان كان يتألف من 15 دولة، ومعه أيضا الانهيار السياسي لغورباتشوف نفسه. موقع إذاعة "دويتشلاندفونك" الألمانية كتب معلقا (31 أغسطس/ آب) "ساعد ميخائيل غورباتشوف في إسقاط الستار الحديدي. لهذا يُحتفى به في الغرب كرجل دولة عظيم. إلا أنه يُتهم (في روسيا بالتسبب) بانهيار الاتحاد السوفيتي".
إجماع ألماني على الإشادة بغورباتشوف وإدانة بوتين
كان أمرا مثيرا كيف ربط الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير بين الماضي والحاضر، في إشادته بمهندس نهاية الحرب الباردة (غورباتشوف) وبين مشعل الحرب في أوكرانيا (بوتين). وقال شتاينماير إن حلم غورباتشوف تحول اليوم إلى أنقاض بعد أن حطمه الهجوم الروسي الوحشي على أوكرانيا، موضحاً أن ألمانيا لا تزال مرتبطة بـ"رجل الدولة العظيم" هذا. وقال: "نحن ممتنون لمساهمته الحاسمة في وحدة ألمانيا ونحترم شجاعته في الانفتاح الديمقراطي وبناء الجسور بين الشرق والغرب".
صحيفة "باديشه تسايتونغ" (31 أغسطس/ آب) كتبت معلقة "كان ميخائيل غورباتشوف إنسانيًا لكنه لم يكن ثوريًا. أراد إضفاء الطابع الإنساني على النظام السوفيتي. إنه لا يتقاسم أي شيء مع بوتين، الذي تعني له القوة والحجم كل شيء".
ومن جهته، وصف المستشار أولاف شولتس الزعيم السوفيتي الراحل بصاحب الجرأة. وأكد أن سياسته مكنت من "وحدة ألمانيا وانهيار الستار الحديدي". وأضاف شولتس أنه بفضل غورباتشوف، حاولت روسيا تأسيس دولة ديمقراطية، لكن يظهر اليوم أن روسيا لم تفشل فحسب في بناء الديموقراطية، بل إن الرئيس فلاديمير بوتين يعمل أيضا على تقويض دعائم أوروبا "ولهذا السبب نتذكر ميخائيل غورباتشوف وندرك كم كان مهما لتطور أوروبا وبلدنا في السنوات الأخيرة".
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "بيلد تسايتونغ" الشعبية الواسعة الانتشار (31 أغسطس/ أب) معلقة: "بالنسبة لنا نحن الألمان، يجب أن تكون وفاة غورباتشوف مناسبة لإعلان حداد وطني. فبدونه لم يكن للوحدة الألمانية أن تتم". واقترحت الصحيفة إطلاق اسم آخر زعيم سوفييتي على إحدى الساحات الكبرى في العاصمة الألمانية برلين.
وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك عبرت هي أيضا عن امتنان ألمانيا الأبدي لميخائيل غورباتشوف، وكتبت في تغريدة على موقع "تويتر": "استرشد ميخائيل غورباتشوف بالسلام والتفاهم بين الشعوب في لحظات مصيرية من تاريخنا. نهاية الحرب الباردة ووحدة ألمانيا هما إرثه ... إننا نأسف على فقدان رجل دولة نشعر بالامتنان له إلى الأبد".
أما المستشارة السابقة أنغيلا ميركل فوصفته بأنه "سياسي عالمي فريد". وقالت في بيان نُشر "أتمنى أن تُتيح ذكرى إنجازه التاريخي لحظة توقف، خاصة في هذه الأسابيع والأشهر الرهيبة من حرب روسيا ضد أوكرانيا (..) لقد كتب غورباتشوف تاريخ العالم. لقد جسد كيف يمكن لرجل دولة واحد أن يغير العالم إلى الافضل". وأضافت مسترسلة "ما زلت أشعر بالخوف الذي كنت أشاركه مع العديد من الأشخاص في جمهورية ألمانيا الديمقراطية في عام 1989، إذا ما كانت الدبابات ستتحرك مرة أخرى كما فعلت في عام 1953، عندما صرخنا "نحن الشعب" ولاحقا "نحن شعب واحد". ولكن هذه المرة، على عكس عام 1953 - لم تتحرك دبابة ولم تُطلق أعيرة نارية"، مشيرة إلى أن غورباتشوف وجه بدلا من ذلك اللوم إلى قادة ألمانيا الديمقراطية العجائز بعبارة: "الحياة تعاقب المتأخرين (..) لقد غيّر ميخائيل غورباتشوف حياتي بشكل جذري. لن أنسى ذلك أبدا".
تصاعد الجدل بشأن مشاركة رسمية في التأبين
منذ الإعلان عن وفاة غورباتشوف تساءلت عديد من وسائل الإعلام الألمانية عن إمكانية حضور ألماني رسمي في مراسيم دفن غورباتشوف، غير أن المستشار شولتس سرعان ما أعرب عن تحفظه حيال مشاركة محتملة وقال: "أعتقد أنه ليس هذا هو المكان أو الزمان المناسبين للحديث عن السفر (..) أتمنى أن تنظم له الدولة الروسية التكريم الذي يستحقه".
غير أن زعيم المعارضة الألمانية ورئيس الحزب الديموقراطي المسيحي، فريدريش ميرتس، نصح قيادة الدولة بالسفر إلى روسيا لحضور مراسم الدفن وقال في تصريحات لتلفزيون صحيفة "بيلد" الألمانية (31 أغسطس/ آب) "سأنصح رؤساء الدول والحكومات في الجانب الأوروبي بقبول الدعوة في حال تم توجيهها إليهم". معتبرا أنّ على ألمانيا أن "تنتهز الفرصة للقيام بمثل هذه الزيارة". وأضاف "لنتخيل للحظة أن لدينا رجلا مثل غورباتشوف في منصب رئيس روسيا اليوم، عندئذ سيبدو العالم مختلفا"، معتبرا أنه على يقين بأنه لن تكون هناك حرب في هذه الحالة.
وذهب رئيس حكومة ولاية بافاريا الألمانية ماركوس زودر في اتجاه آخر، داعيا لإقامة حفل تأبين منفصل في ألمانيا. وقال زودر الذي يشغل أيضا منصب رئاسة الحزب المسيحي الاجتماعي بولاية بافاريا في تصريحات لصحيفة "مونشنر ميركور" الألمانية (الأول من سبتمبر/ أيلول) "يجب إقامة حفل تأبين ألماني لميخائيل غورباتشوف (..) ألمانيا مَدينة له بالكثير، إنه أحد آباء إعادة الوحدة وأهدى ملايين الأشخاص حريتهم. يجب على ألمانيا تقدير ذلك"، مضيفا أن غورباتشوف دافع عن طريق السلام والحرية، ويعد نموذجا يحتذى به، لاسيما في الفترة الحالية. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "أوغسبورغه ألغماينه" (31 أغسطس/ آب) "ميخائيل غورباتشوف، أب الوحدة وحرفيا هادم الجدران. إلا أن حلمه برؤية روسيا مسالمة لم يتحقق".
موقف أوروبي مشترك من حضور الجنازة؟
هل ينبغي لممثلي الحكومات الأوروبية والألمانية بالتحديد حضور جنازة غورباتشوف؟ الجواب على هذا السؤال ليس بالهين في زمن الحرب الأوكرانية. فهذا الموضوع أسال الكثير من المداد، باعتبار الدور الاستثنائي الذي لعبه الزعيم السوفيتي السابق في توحيد الألمانيتين دون إطلاق رصاصة واحدة. غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا عقّد كل شيء.
متحدثة باسم وزارة الخارجية الألمانية صرحت لشبكة "ARD" الإعلامية العامة (الأول من سبتمبر/ أيلول) أن السفير الألماني في موسكو، غيزا أندرياس فون غير، سيحضر في جميع الأحوال مراسم الجنازة. ومن المتوقع أن يُؤبّن غورباتشوف في قاعة تاريخية ذات أعمدة في "مبنى النقابة" وسط موسكو، والمخصص عادة لخدمات الجنازة لكبار السياسيين الروس، من بينهم على سبيل المثال جوزيف ستالين الذي نُقل إلى نفس المكان بعد وفاته عام 1953. ورغم أن الكرملين لا ينوي تنظيم جنازة دولة رسمية إلا أن حفل التأبين سيحضره حرس الشرف.
وبهذا الصدد، حذر الرئيس السابق لمؤتمر ميونيخ للأمن، فولفغانغ إيشينغر، على قناة موقع "فيلت" (الأول من سبتمبر/ أيلول) من أن زيارة روسيا من قبل قادة ألمان رفيعي المستوى، تتضمن مخاطر ترك انطباع سيئ في ضوء الوضع السياسي العالمي الحالي، فالوقوف إلى جانب بوتين أمام قبر غورباتشوف... لا أعرف ما هو الانطباع الذي سيولده ذلك لدى بقية العالم؟".
المتحدث باسم السياسة الخارجية للتكتل المسيحي في البرلمان الألماني، يورغن هارت، أكد أنه من المهم أن يتفق رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي على موقف واحد وقال: "إن إساءة تأويل (حضور الجنازة) باعتباره احتراما وتقديرا لبوتين، سيكون تأويلا مبالغا فيه. غير أنه بات من الأكيد، أنه حتى في حال مشاركة مسؤولين كبار من الحكومة الألمانية، فلا توجد مخاطر التقاط صور مع بوتين، بعدما استبعد الأخير مشاركته في مراسيم التأبين المقررة يوم السبت (الثالث من سبتمبر/ أيلول)، وفق متحدث باسم الكرملين بسبب "أجندة بوتين".
إجماع عالمي على دور غورباتشوف التاريخي
أثارت وفاة غورباتشوف موجة من الإشادات والتنويه خصوصا في الإعلام الغربي الذي ذكًر بشجاعته الإصلاحية ودوره الحاسم في إنهاء الحرب الباردة. صحيفة "تايمز" اللندنية (31 أغسطس/ آب) أشادت بغورباتشوف كرجل دولة "صنع السلام مع الغرب ودفع ثمن ذلك. قلة من رجال الدولة في القرن العشرين كان لهم مثل هذا التأثير في الداخل والخارج، وقليل منهم ترك مثل هذا الإرث (...) ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم سوفيتي، يُحتفى به في الغرب باعتباره الرجل الذي بدأ انهيار الاتحاد السوفيتي وأنهى الحرب الباردة ".
أما صحيفة "لوموند" الفرنسية فكتبت معلقة "ميخائيل غورباتشوف، الذي يحظى بالاحترام في الغرب، عاش في روسيا بعيدا عن الأضواء منذ أن ترك السياسة عام 1991. ولعل ذروة التناقض هو أن مهندس التقارب بين الشرق والغرب أثار الاعجاب في أوروبا بينما كان موضع لامبالاة في وطنه الأم".
أما "الموندو" الإسبانية فذهبت في نفس الاتجاه وكتبت "كان غورباتشوف بطلاً تراجيدياً اتخذ قرارات حكيمة، حدت في الوقت نفسه من مجال مناورته كحاكم. وتحدث عدة مرات عن قراره بعدم إصدار أوامر للقوات السوفيتية بوقف سقوط جدار برلين".
حسن زنيند