1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

حوار مع الباحث العراقي فالح عبد الجبار: "حرب أهلية مصغرة"

١ أكتوبر ٢٠٠٦

يقدم فالح عبد الجبار، مدير معهد العراق لمعلومات الديمقراطية، في الحوار التالي تحليلا للوضع الحالي الذي يعيشه العراق ويطرح سيناريوهات مختلفة للخروج من دوامة العنف، بما في ذلك سيناريو الفيدرالية.

https://p.dw.com/p/9Bop
وحدة العراق على المحكصورة من: AP

عقدت مؤسسة هينريش بول في برلين مؤتمرًا تحت عنوان "الأقليات والأكثريات في الشرق الأوسط" شارك به عدد من الباحثين والأكاديميين السوريين والعراقيين واللبنانيين والألمان. وكان لنا هناك هذا اللقاء مع الباحث الاجتماعي العراقي الدكتور فالح عبد الجبار.

د. فالح عبد الجبار كنت قد كتبت في اللوموند في عام 2003 إن أسوأ الكوابيس المتوقعة للعراق هي الحرب الأهلية. هل أصبحت هذه الحرب قائمة بالفعل، وما هي تداعياتها اليوم؟

فالح عبد الجبار: ليس هناك حربًا في العراق اليوم، ما يدور هو حرب أهلية مُصغّرة. إنه تكتيك تقوم به بعض القوى الأصولية والسياسية العراقية وغير العراقية من أجل إعادة التوازن في بغداد كجزء من إستراتيجية أكبر تهدف إلى نزع الاستقرار وتقويض الوضع كله. والغايات منها متعددة لأن القوى المساهمة في العنف متنوعة أيضًا.

لدينا الآن حالة مؤلمة من العنف المنفلت الذي يستهدف الأهداف اللينة السهلة. يستهدف الناس العاديين: أنت شيعي في منطقة سنية تُقتل أو تُطرد، أنت سني في منطقة شيعية تُقتل أو تُطرد. هناك تطهير عرقي على أساس الهوية المذهبية، بدأ به البعثيون السابقون، وبعض الأصوليين السلفيين، وبعض العصابات المؤجّرة، وهناك أيضًا المتعصبون المحليون، ولكل دوافعه المختلفة، فالبعثيون يريدون العودة للسلطة، والأصوليون عندهم حرب كونية أصولية، وهناك من عنده نزعات ضيقة طائفية محلية. المعركة إذًا متركزة على بغداد، وهذا امتداد للعنف الذي بدأ ضد الاحتلال، وتحول شيئًا فشيئًا إلى عنف ضد العراقيين أنفسهم.

ما هو المخرج من دائرة العنف القائم اليوم؟

عبد الجبار: هناك عدد من القوى الأساسية تساهم في ذلك: القوة الأولى والأكبر هي القوى المؤسساتية، أي ضباط الجيش السابق، كبار الموظفين السابقين، الذين كانوا يديرون الدولة، وهم ليسوا بعثيين بالضرورة أو من أنصار صدام، أولئك الذين أهينوا من قبل بريمر وطردوا بشكل قاس وبالتالي هم جزء أساسي من الاحتدام.

هذه القوى ركزت حربها ضد الأمريكان، وعندها قدر غير قليل من الشرعية. في حزيران 2003 أجريت مقابلات مع 35 ضابط كبير في العراق. واتضح لي أن هذه القوى لا تملك المال ولكنها تمتلك الخبرة.

القوة الثانية هي البعث المهزوم بشقيه، البعث القرابي –أي أقرباء صدام- والبعث الأيديولوجي هاتان الكتلتان تريدان العودة للسلطة وكان من شأنهما أن تقوما بنفس الأعمال لو كان التغيير من الداخل وليس من الأمريكان. لقد خربوا البلد عبر ثلاث حروب.

القوة الثالثة هي السلفيون، الزرقاويون وما شابه. وهناك الإخوان المسلمون المحليون، وهو تيار معتدل من الإسلام، يريد المشاركة بالسلطة وزوال الاحتلال، أهدافه واضحة ومحددة. هناك قوى مافيات مأجورة، تتقاضى من البعثيين من أجل القيام بأعمال العنف. بالإضافة إلى ذلك توجد قوى قبلية محلية تعرضت لبطش وأذى الأمريكان في مناطقهم، فكانت ردود فعلهم عنيفة. هذه هي مجموع القوى.

ما المطلوب للخروج من هذا الوضع الدموي؟ ما هو الحل السياسي الممكن؟

عبد الجبار: التطور لدينا لم يكن نشوئي تدريجي، بل اتخذ شكل القطع، وهذا يسبب الانفجارات. لذا سندفع ثمن التاريخ المديد للديكتاتورية والخراب الذي خلفته، وسندفع ثمن الاحتلال الذي هو تغيير قطعي وفجائي في السياسة والاجتماع والاقتصاد.

المطلوب الآن مشاركة واسعة بالسلطة، وأن تعود القوى المؤسساتية–ضباط الجيش السابق، الإداريين الخ- المطلوب إصلاح سياسي وأن يتولى العراقيون شؤونهم بأنفسهم، بحيث يخرج الأمريكان من البلد بالتدريج بشكل سلمي، وإن لم يخرجوا بشكل سلمي يمكننا أن نقوم بإضرابات عامة، باعتصامات، هناك طرق متعددة وليس بالضرورة عبر استخدام السلاح.

ثم تركيز الجهد على الأصولية الوافدة والبعثيين القرابيين، هؤلاء الذين نهبوا البلد. لكن الحل لن يتم برأيي بين ليلة وضحاها، وسوف يحتاج لعدة سنوات.

هل ترى أن الانتماءات المذهبية والطائفية والعرقية قد غدت الانتماءات الأولى والأهم أمام تراجع المواطنة والانتماء للوطن العراقي؟

عبد الجبار: صحيح وغير صحيح! صحيح بمعنى أن الهويات الطائفية صارت أساسا للتعبئة السياسية، وهذا ديدن كل القوى السياسية الإسلامية. الإسلام السياسي عندنا في العراق هو مذهبي طائفي بالتعريف. أغلب جماهيره من الشرائح الفقيرة. وهذه الفئة كبرت واتسعت في فترة الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة على مدى 14 سنة. حيث دمرت الشريحة التي كان يمكن لها أن تخدم المدنية والتطور الديمقراطي في العراق. أي أُفقرت الطبقات الوسطى، التي تحولت إلى فئات هامشية، وهذه تريد أن تستعيد مكانتها السابقة بأية وسيلة. من هنا يأتي حراكها السياسي عنيفًا وغاضبًا ودمويًا.

لكن الطائفية تبقى وسيلة تعبئة سياسية للكسب ضمن البلد وليس للانفصال عنه. لنقل هكذا: أن الوطنية العراقية تعني الحفاظ على العراق ككل، أما الطائفية فتعني التنافس للحصول على حصة أكبر من السلطة السياسية ومن الموارد في إطار عراق موحد. لذلك تجد المستويين عند الشخص الواحد نفسه أو عند القوة الواحدة نفسها، ولكن عندما يغلب الكلام الطائفي يبدو وكأنه لا يوجد خطاب وطني عراقي.

كيف يكون هناك خطاب وطني في ظل كلام طائفي؟

عبد الجبار: الأمثلة كثيرة. عندنا الآن حكومة إسلامية شيعية، عندما يحصل هجوم من قبل إيران، تقف هذه الحكومة وتحتج وتدافع، ماذا نسمي ذلك؟ ما هذا الموقف، كيف نفسر عدم قبولها بالمساس بأي سنتمتر من أرض العراق؟ ماذا نسمي المطالبة برفع العلم الوطني في كردستان، الذي يطالب به رئيس الوزراء الشيعي المذهبي؟ بالمناسبة فكرة الوطنية العراقية قديمة وتعود لبداية القرن العشرين.

هل ترى في الفيدرالية حلاً ناجعًا لمعضلة الأقلية والأكثرية في العراق؟

عبد الجبار: نعم ولا. نعم بحدود ولا بحدود. النظام الفيدرالي نشأ ليس لحل المشكلة القومية، بل نشأ كترتيب جديد للنظام الديمقراطي يُقلَّل به من احتكار المركز للسلطات. ويعتبر تقسيم السلطات (التشريعية، القضائية، التنفيذية) منذ منتسكيو عماد المجتمع الحديث، ثم أضيف إليه تقسيم جديد هو تقسيم السلطة التنفيذية نفسها بين المركز والأطراف. فصارت الفيدرالية تخدم تطوير النظام الديمقراطي وتعطي أيضًا للأقليات في الولايات حقها في إدارة شؤونهم بنفسها.

طُرح في الإطار العراقي الحكم الذاتي، أو الفيدرالية، أو الديمقراطية التوافقية أشكالاً لحل المشكلة القومية. الفيدرالية في هذه الحالة تضع حلاً للمشكلة الإثنية في العراق، أقصد القضية الكردية تحديدًا.

لكن من جهة أخرى هناك أقليات تركمانية وآشورية وسريانية داخل المناطق الكردية، وهي تطالب بحقوقها، وما لم يتم طمأنة هذه الحقوق ستعتري الفيدرالية بعض المثالب، وستسبب مشاكل للمركز، علاوة على المشاكل الإقليمية. فإذا حصل مشكلة للتركمان داخل المنطقة الكردية سوف تثار تركيا. أي تحل مشكلة وتخلق مشكلة أخرى، لكن تحل مشكلة كبيرة وتخلق مشكلة صغيرة.

لكن هناك أيضًا من يتحدث عن فيدرالية تقوم على أساس مذهبي...

عبد الجبار: نعم، تُطرح فيدرالية شيعية، لكنها فيدرالية إدارية. الجنوب أهمل إهمالاً رهيبًا من الحكومات السابقة، هناك مدن لا يوجد بها مستشفيات، ولا ماء. العراق بلد نفطي، تجد في بغداد أحدث المباني والشوارع والسيارات، بينما هناك بلدات لا يوجد بها حتى حنفية ماء، كمن ينتقل من بنغلادش إلى نيويورك بقفزة واحدة داخل دولة واحدة.

هذا مؤلم للناس ويفهموه بمفهوم طائفي: "لأننا شيعة في الجنوب لا أحد يهتم بنا"، لذا نشأت نزعة قوية تجاه الفيدرالية في البصرة، حيث ثلاث أرباع نفط العراق ومع ذلك هي من أفقر مدن العراق. البصرة حاضرة عظيمة لها تاريخها، تجد الماء الآسن في شوارعها، ولا يوجد ماء عذب منذ 15 سنة. من هنا تأتي النزعة اللامركزية البصرية. نزعة فيها رغبة بالعدالة وبتوزيع الموارد.

هل يمكننا الحديث عن عدة مفاهيم متباينة للفيدرالية داخل الصف الشيعي؟

عبد الجبار: نعم هناك دعوة أخرى مختلفة تأتي من النجف، من عزيز الحكيم، وهو لديه أجندة أخرى قريبة من إيران، يريد أن يقيم فيدرالية شيعية كبيرة من تسع محافظات يكون هو رئيسها. وهناك قوى معترضة عليه قوية جدًا من داخل الصف الشيعي.

لذا يجب أن نميز بين ثلاث فدراليات: الفيدرالية الإثنية للأكراد، والفيدرالية الإدارية للجنوب البصري، ثم الفيدرالية المذهبية الطائفية الشيعية. الأولى والثانية أتصور فيهما جانب سليم، الأولى لحل المشكلة القومية والثانية لحل مشكلة توزيع الموارد وخدمة الناس، أما الشكل الثالث من الفيدرالية المذهبية فأنا ضده، لأنه خطير وتقسيمي وضد الوطنية العراقية، وفيه أجندة إقليمية أيضًا، وفيه أجندة بحكم إسلامي متخلف ومحافظ جدًا.

ما هي مقومات دولة فيدرالية ناجحة؟

عبد الجبار: هذه هي المشكلة الآن. هناك نظرية جديدة هي النظرية التوافقية. النظرية الديمقراطية الكلاسيكية لها ممثلين: منتسيكيو وجون لوك الذي يقول بالحكم بالرضا وحكم الأغلبية الانتخابية. في الدول المتجانسة لا يوجد مشكلة، الكل بيض، الكل مسيحيين، الكل بروتستانت، فتأتي الحكومة بيضاء مسيحية بروتستانتية.

لكن عندما يكون البلد متعدد، وفيه أكثرية ما، ستُتَرجَم الأغلبية السكانية إلى أغلبية سياسية، الحكم الذي سينتج عنها يسمى إثنوكراتي أي استبداد الإثنية الكبرى أو المجموعة الكبرى، وللخروج من هذا المأزق حيث تؤدي الديمقراطية البسيطة الكلاسيكية إلى هيمنة مجموعة على المجاميع الأخرى تم اختراع التوافقية وهي اختراع أوروبي، لحل مشكلات حقيقية حصلت في هولندا، في سويسرا، في بلجيكا وغيرها، وجاءت بعد فترة من الممارسات الديمقراطية الطويلة، حيث اكتشفوا أن الديمقراطية الكلاسيكية لا تكفي.

هل يمكن نقل هذه التجربة الجاهزة بلا أية مقدمات؟ الم يفشل نقل مفاهيم القومية والاشتراكية سابقًا؟

عبد الجبار: لا كنا ندعو إلى أشياء هي من صلب النظرية التوافقية ولم نكن نعرف هذه النظرية التوافقية. كنا ننادي مثلاً بحكومة وحدة وطنية، ماذا يعني ذلك، يعني حكومة تمثيل موسعة. آرندت ليبهارت، وليمبروخ وآخرون، أي أكبر منظرو التوافقية كتبوا النظرية في السبعينيات والثمانينيات، قالوا إن أول شروطها حكومة ائتلاف وتحالف واسع تشمل حزب الغالبية وسواه.

ما هي حكومة الوحدة الوطنية، إنها هذا المبدأ. يعني أن يدعي الناس إلى ما يحتاجونه على الأرض، إنه نظام حاجات وليس نظرية، بمعنى أنه ليس رؤية مستقبلية. الاشتراكية رؤية للمستقبل، تريد أن تطبق شيء في المستقبل. القومية والتوافقية والديمقراطية هي نظريات ظهرت بعد وليس قبل نشوء النظم السياسية، وقد استُخلصت من النظم السياسية بعد تبلورها.

لنأخذ مبدأ التمثيل النسبي في الوزارات، كنا نقول مثلاً لماذا إذا كان الوزير في وزارة الخارجية من الأنبار يكون كل موظفي الوزارة من الأنبار. لماذا لا يكونوا من الموصل ومن بغداد وهلم جر. هذه المطالب كنا ننادي بها على الأرض قبل عشرين سنة.

اكتشفنا لاحقًا أن مبدأ التمثيل النسبي في الوزارات مصاغ في نظرية، فالتحالف الواسع وحق الفيتو المتبادل بين الأقليات والأكثرية، والتشاور، والإدارة الذاتية للشؤون الخاصة لكل جماعة وما إلى ذلك، كل هذه الأمور موجودة في الواقع، لكن يجب الاعتراف بها ودراسة أسباب نجاحها أو فشلها، يجب ترسيخها في الدستور وممارستها في المؤسسات، وترك الفرصة للناس للتفكير بها، لكي يروا ماذا فعل الآخرون وأين أخفقوا، من الممكن أن نبتكر شيء جديد، لا أدري، ربما ننجح، ربما نخفق، لكن هذا هو الطريق.

أجرى الحوار يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2006

تم إجراء الحوار على هامش مؤتمر عقدته مؤسسة هينريش بول في برلين تحت عنوان "الأقليات والأكثريات في الشرق الأوسط" شارك به عدد من الباحثين والأكاديميين السوريين والعراقيين واللبنانيين والألمان.

فالح عبد الجبار، باحث في علم الاجتماع، يترأس معهد العراق لمعلومات الديمقراطية، ويقيم حاليًا في بيروت. له إصدارات باللغتين الانجليزية والعربية تبحث في مواضيع مختلفة كالاشتراكية والديمقراطية والإسلام والعلوم السياسية.

Faleh Abdul-Jabar
الباحث العراقي فالح عبد الجبار
تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد

اكتشاف المزيد