الغاز الطبيعي.. سلاح الدب الروسي لابتزاز أوروبا؟
١٠ سبتمبر ٢٠٢١في السادس من سبتمبر/ أيلول الجاري، أعلنت شركة "نورد ستريم 2 إيه.جي" المملوكة لشركة "غازبروم" الروسية للغاز تركيب آخر أنبوب في خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" (السيل الشمالي 2) الرابط بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق. المشروع يثير جدلا متجددا على مدى العشر سنوات الأخيرة. الأنبوب سينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق. ومن المنتظر أن يبدأ توريد الغاز إلى ألمانيا عبر هذا الأنبوب مع بداية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. ويتزامن هذا التطور مع ارتباك لسوق الغاز في أوروبا بسبب نقص في المخزون بسبب خفض شركة غازبروم ضخ كميات الغاز إلى أوروبا خلال الأشهر الأخيرة، ربما لخلق ضغط في السوق على خلفية بدء عمل نورد ستريم 2.
وأدى هذا النقص إلى ارتفاع سعر العقود الآجلة للغاز الطبيعي إلى أعلى مستوى لها منذ سبع سنوات، بما في ذلك في ولايات المتحدة الأمريكية في ظل تصاعد مخاوف نقص الامدادات مع اقتراب موسم الشتاء وزيادة الطلب على التدفئة. وأشارت وكالة بلومبرغ إلى عوامل الطقس الحار في الصيف واضطراب إمدادات الغاز الطبيعي نتيجة إعصار إيدا على السواحل الأمريكية وبالتالي تباطؤ وتيرة ارتفاع مخزون الغاز. ويحذر خبراء قطاع الطاقة من احتمالات حدوث أزمة في إمدادات خلال الشتاء المقبل مع استئناف الأنشطة الاقتصادية التي كانت قد توقفت بسبب جائحة كورونا، مما سيؤدي إلى زيادة الطلب على الطاقة بشكل عام.
مؤيدو مشروع "نورد ستريم 2"، يعتبرون أنه يمكن أن يحقق بعض الهدوء في أسواق الغاز الأوروبية التي تواجه أزمة إمدادات. وهو ما قد يشكل انجازاً للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي أيدت إنشاء المشروع على مدى عقد من الزمن، واجهت فيه معارضة كبيرة من حلفاء رئيسيين على رأسهم الولايات المتحدة.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "نويه تسوريشه تسايتونغ" (التاسع من سبتمبر/ أيلول 2021): "منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة وروسيا تعتبر نفسها قوة رئيسية في مجال الطاقة، وبالتالي فإن مشاريع أنابيب الغاز ليست ذات طبيعية اقتصادية بحتة، وإنما لها أهداف جيوسياسية أيضاً، بالإضافة إلى معاقبة أوكرانيا المتمردة، وبالتالي زعزعة استقرارها بسبب توجهها الغربي (..) نظرة واحدة على خريطة شبكات أنابيب الغاز في أوروبا كافية لمعرفة كيف تحاصر أوكرانيا وجيرانها في شرق أوروبا من خلال نورد ستريم".
الدفعة الأخيرة ـ رفع بايدن للعقوبات الأمريكية؟
تخلت الولايات المتحدة عن العقوبات المفروضة على الشركة المشرفة على بناء خط "نورد ستريم 2"، وتم بموجب ذلك التنازل عن التدابير العقابية ضد الشركة ورئيسها التنفيذي الألماني ماتياس وارنيغ لأسباب وصفت بـ "المصلحة الوطنية". وفي حين أن الشركة المسؤولة عن خط الأنابيب لن تخضع للعقوبات، ستخضع كيانات أخرى معنية لتدابير عقابية.
وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن فى بيان إن معارضة واشنطن لخط الأنابيب "ثابتة" وإن الولايات المتحدة ستواصل معارضة استكمال المشروع. وأضاف كبير الدبلوماسية الأمريكية: "تظهر إجراءات اليوم التزام الإدارة الأمريكية بأمن الطاقة في أوروبا، بما يتفق مع تعهد الرئيس (جو بايدن) بإعادة بناء العلاقات مع حلفائنا وشركائنا في أوروبا".
وعلى مدى سنوات، شكل المشروع موضوع خلاف جوهري بين واشنطن وبرلين، أبرز مروج للمشروع، لكن أيضاً بين الأوروبيين أنفسهم وكذلك بين روسيا وأوكرانيا. وبشكل مفاجئ غيرت واشنطن موقفها بالتوصل الى تسوية ألمانية- أمريكية لمحاولة إنهاء هذا الخلاف رغم أن كييف مقتنعة بأن "نورد ستريم 2" لا يزال "سلاحاً جيوسياسياً خطيراً في أيدي الكرملين". وذهب موقع "نوردكورييه" (السادس من سبتمبر/ أيلول) في الاتجاه ذاته، وكتب: "العقوبات الأمريكية أخرت بشكل كبير بناء خط الأنابيب، الذي كان من المفترض إتمامه في نهاية عام 2019. وتعتبر واشنطن أن أوروبا تجعل نفسها رهينة للغاز الروسي في إمداداتها من الطاقة. وتتهم روسيا الولايات المتحدة بالسعي في المقام الأول لتحقيق مصالحها الاقتصادية بمعارضتها لـ نورد ستريم 2. وتعرض الولايات المتحدة غازها الصخري المسال، كبديل للغاز الروسي في السوق الأوروبية".
المفوضية الأوروبية في مواجهة العملاق الروسي
في نهاية أغسطس/ آب الماضي، رفضت محكمة دوسلدورف الولائية العليا دعوى للشركة المشغلة لـ "نورد ستريم 2" ضد إحدى توجيهات مفوضية الاتحاد الأوروبي في عام 2017 التي تضمن منافسة شريف في سوق الغاز الأوروبية. وتعتمد سياسة المفوضية على فصل جذري بين شبكة التوزيع من جهة والتشغيل من جهة ثانية. وتعتمد السياسية لأوروبية على منح الشركات المنافسة وصولاً غير تمييزي إلى شبكات توزيع الغاز.
وفي حال خسرت غازبروم الدعوة نهائياً أمام محكمة العدل الاتحادية، فلن تتمكن من نقل إلا نصف كمية الغاز المخطط لها التي تعادل 55 مليار متر مكعب عبر الأنبوب الجديد، لأنه يجب أن يمنح، وفق القانون، حق استعمال الأنبوب لمزود غاز منافس. وهذا يعني أن غازبروم ستضطر في هذه الحالة إلى مواصلة استعمال الخط الأوكراني.
وليس من الواضح بعد ما ستؤول إليه هذه المعركة القانونية ولا تداعياتها التجارية. وأفادت بلومبرغ، أنه بعد ساعة بالتقريب من صدور قرار محكمة دوسلدورف في 23 أغسطس/ آب، علقت شركة غازبروم الروسية جميع عمليات بيع الغاز لعام 2022 على منصتها الالكترونية. بعد ذلك، وجدت شركات الغاز الأوروبية في موقف صعب من حيث حساباتها بشأن مخزون الغاز وتلبية حاجيات زبائنها، خصوصاً وأنه ومنذ بداية العام، ارتفعت أسعار الغاز في الاتحاد الأوروبي بنحو 193 في المائة.
نوردستريم يكشف إدمان كييف على المليارات الروسية
دخلت الحكومة الألمانية بواسطة مفوضها لعبور الغاز، غيورغ غراف فالدرزيه، في مفاوضات مع موسكو بشأن آفاق تجديد الاستفادة من شبكة أنابيب الغاز العابرة لأوكرانيا. وعينت برلين فالدرزيه مفوضاً خاصاً للتوسط بين موسكو وكييف بتكليف من الحكومة الألمانية في هذا الملف الشائك حتى تواصل أوكرانيا الاستفادة من عبور الغاز الروسي لأراضيها رغم وجود نوردستريم 1 و2.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد صرح مؤخراً خلال لقاء مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بأن من الممكن الاستمرار في استخدام شبكة الغاز الأوكرانية إذا كانت هناك حاجة إلى مثل هذه الكميات من الغاز الروسي في أوروبا. وأكد بوتين التزام بلاده بعقد تمرير الغاز مع أوكرانيا حتى نهايته. وتتلقى أوكرانيا حوالي 1.5 مليار دولار على الأقلّ سنوياً من العائدات التي تجنيها لقاء مرور الغاز الروسي عبر أراضيها، وهي تتوجس أيضا من خسرانها لأداة ضغط دبلوماسية في مواجهة موسكو.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "زودفيستبريسه" (22 أغسطس/ آب 2021): "تحارب أوكرانيا خط أنابيب الغاز نورد ستريم، لأنها تعتمد منذ عقود على المليارات الروسية وكييف ليست بريئة تماماً من هذا الإدمان". وتخشى أوكرانيا بالفعل على دورها كبلد عبور للغاز الروسي إلى أوروبا، فيما ترى روسيا أن نقل الغاز عبر خطي الغاز نورد ستريم 1 و2 بدون طرق ملتفة سيتم بصورة أسرع وأرخص وأنظف.
وكانت القيادة الروسية قد أعلنت أن محطات الضغط في أوكرانيا لا تسمح بنقل الغاز الروسي إلى أوروبا بطريقة صديقة للبيئة. في السياق ذاته وعد الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال قمّة جرت بينهما في واشنطن بداية الشهر الجاري، دعمه في مواجهة روسيا. وكان موضوع الغاز الروسي في مقدمة جدول أعمال الرجلين.
يُذكر أن بايدن قرر رفع العقوبات التي فرضها سلفه دونالد ترامب على المشروع بدعوى أن الأخير ذهب بعيداً جداً بحيث لم يعد ممكناً إيقافه. وأكد انه انتزع من ألمانيا التزاماً بدعم أمن الطاقة في أوكرانيا.
هكذا وصلت أوكرانيا للحملة الانتخابية الألمانية
صحيفة "هاندلسبلات" الاقتصادية (الثامن من أغسطس/ آب) كتبت مقالاً مطولاً تحت عنوان "أكيد: غازبروم شركة مُبتزة"، مكررة بذلك مخاوف عدد من الخبراء الألمان بشأن مخاطر استعمال الكرملين للغاز كسلاح وأداة ضغط في علاقته مع أوروبا. هذه المخاوف وصل صداها للحملة الانتخابية الجارية حالياً في ألمانيا. فقد لوح المرشحان الرئيسيان لمنصب المستشارية الألمانية في كل من الحزب الديموقراطي المسيحي أرمين لاشيت والحزب الديمقراطي الاشتراكي أولاف شولتس بوقف نقل الغاز من روسيا عبر الأنبوب الجديد، إذا تم خرق الالتزامات تجاه أوكرانيا. وقال لاشيت إنه تم الاتفاق بوضوح على أن هذا المشروع يجب ألا يتم استعماله على حساب أوكرانيا. وأضاف "إذا لم يلتزم الرئيس بوتين بهذه القاعدة واستخدمها ضد أوكرانيا فيمكن إيقافه في أي وقت".
وعلى غرار لاشيت، ذهب شولتس، في نفس الاتجاه وقال إن بوتين ليس لديه فقط اعتبارات اقتصادية محضة بشأن بخط الأنابيب، عكس ألمانيا. وأكد شولتس أنه "يجب أن يكون واضحا للغاية أننا نواصل ما بدأناه بالفعل، أي ضمان الأمن لأوكرانيا". وأضاف أنه يجب أن يكون هذا هو المبدأ أيضاً في المستقبل: "سيكون لإعاقة نقل الغاز وتهديد أمن أوكرانيا عواقب على النقل المحتمل عبر خط الأنابيب المكتمل آنذاك، ويجب الحديث عن ذلك". من جانبها كررت مرشحة حزب الخضر أنالينا بيربوك رفضها للمشروع من أصله، مؤكدة أن بوتين يسعى لزعزعة استقرار أوكرانيا.
حسن زنيند