1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

لولا بوش لكان صدام يحكمهم الآن بـ"القندرة"

٢٤ ديسمبر ٢٠٠٨

د.عبد الخالق حسين

https://p.dw.com/p/GMdJ

يعتقد البعض فيما يخص حادثة الحذاء الشنيعة، أننا (مؤيدون ومعارضون) لها، أوليناها اهتماماً أكثر مما تستحق، إلا إني أرى خلاف ذلك. صحيح أنها حادثة فردية ونادرة قام بها فرد متهور، إلا إن ما لقيته هذه الحادثة من تأييد وترحيب وردود أفعال في الشارع العربي، ومن قبل شريحة لا يستهان بها من المثقفين والمهنيين العرب، لذلك لم تعد الحادثة فردية، بل صارت ظاهرة اجتماعية وسياسية لها علاقة بالثقافة العربية، وتستحق اهتماماً واسعاً، وأنها كانت اختباراً كشف هشاشة الثقافة العربية –الإسلامية (الموروث الاجتماعي culture) أمام العالم، بكل ما فيها من عورات وعيوب وفضائح، وما يمكن أن ينتج عنها من مصائب على العرب أنفسهم وعلى الآخرين. ومن هنا تبرز أهمية البحث في هذه المسألة، وضرورة مناقشتها بعمق من قبل علماء الاجتماع والنفس والسياسيين والإعلاميين والمثقفين الآخرين، لدراستها دراسة علمية جدية، بعيداً عن سيطرة العواطف والغرائز الشوارعية.

ومن دلائل على أهمية هذه الحادثة الشنيعة، فبعد دقائق من وقوعها، صار مرتكبها، الصحفي المغمور أشهر من نار على علم، والشغل الشاغل للإعلام العربي، وبطلاً أسطورياً من أبطال الأمة العربية، من عنترة بن شداد، مروراً بأبي زيد الهلالي وانتهاءً بـ"القائد الضرورة" صدام حسين. كما وتحولت الحادثة إلى مفخرة قومية تنافس فيها شعراء الأمة في نظم المعلقات العصماء، وتبارى كتابها في تدبيج المقالات المطولة في مدحها واعتبارها مفخرة من مفاخر الأمة العربية المجيدة، يشيدون لمرتكب الجريمة بالبطولة الخارقة، وبالفضل في رفع شرف الأمة عالياً بعد أن هتكه بوش!! إذ (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تترامى على جوانبه الأحذية- مع الاعتذار للمتنبي). ومن شدة حماس الشارع العربي لهذا |النصر المؤزر" تبرع مليونير سعودي لشراء الحذاء (القندرة) بعشرة ملايين دولار لتخليده في متحف دولي أو تزيين واجهة بيته، وتبرعت محطة تلفزيونية لبنانية بمنح "البطل القومي" رواتب سخية مدى الحياة. وأخيراً وليس آخراً، سمعت من صديق عزيز أثق به، أن طالبت جماهير في عمان/الأردن، بتسمية شارع باسم (شارع حذاء الزيدي). كل هذه الاحتفالية الجماهيرية الواسعة هي ليس حباً بالصحفي العراقي، بل كرهاً للرئيس بوش وحقداً على أمريكا. ويا للمفارقة وسخرية الأقدار، الملاحظ أن معظم المتحمسين في الإشادة بهذا "البطل الأسطوري" هم من المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى التي لولا أمريكا لكانت هذه الدول عبارة عن مقابر جماعية وأكبر سجن في العالم كما كان العراق في عهد صدام، ولكان صدام يحكمهم الآن بالقندرة.

ولهذه الأسباب وغيرها، ارتقت مفردة "القندرة" في اللغة العربية، التي تعني (الحذاء) بالعراقي، والتي كنا نعتبرها سوقية نتجنب لفظها في كلامنا حتى مع الأصدقاء المقربين، وإذا ما اضطررنا إلى ذكرها، فلا بد وأن تليها كلمة اعتذار، أقول، أرتقت هذه المفردة الآن في لغة "خير أمة أخرجت للناس" من مفردة سوقية إلى مفردة "راقية" يمكن إدخالها في عناوين المقالات دون أي إحراج كما هي الحال في عنوان هذا المقال. فعندما وضعت مفردة "القندرة" في مساحة البحث في google.com ظهرت لي عشرات العناوين التي فيها هذه المفردة وبدون أي تحرج. كل ذلك بفضل "بطل الأمة العربية" المغوار، الصحفي البعثي- الصدري، والمغمور سابقاً والمشهور حالياً المدعو (منتظر الزيدي) بعد قيامه بالتصرف المنحط في عرف الأمم المتحضرة، والراقي في عرف (أمة الحضيض –التعبير للكاتب والصحفي عدنان حسين)، عندما رمى الرئيس بوش بفردة حذائه بدلاً من أن يحرجه بسؤال، وذلك انتقاماً منه لإسقاطه نظام صدام حسين الذي كان يحكم الشعب العراقي بالقندرة، وكان قيمة الصحفي عنده لا تتجاوز قيمة الحشرة أي دون القندرة.

والجدير بالذكر أن السادة العرب من الذين رحبوا بجريمة الحذاء، نسوا أو تناسوا، وتنكروا لفضل الرئيس الأمريكي جور بوش، الأب، الذي حرر الكويت من الاحتلال الصدامي، وجورج بوش الابن الذي حرر الشعبين العراقي والأفغاني من أبشع نظامين همجيين في التاريخ، وسحق منظمة القاعدة الإرهابية التي كانت تهدد بالإطاحة بالحكومات العربية وإقامة حكم إسلامي فيها على غرار إمارة طالبان في أفغانستان. فبفضل بوش الابن، صار بن لادن ومساعدوه مشردين ومختفين في كهوف تورا بورا كالجرذان المذعورة.

فباعتراف معظم الباحثين والمحللين السياسيين في العالم، كانت طموحات صدام حسين لم تتوقف عند احتلال الكويت، بل كان يطمح في احتلال جميع دول الخليج العربية بما فيها المملكة السعودية. ولكن شاءت إرادة التاريخ أن تتطلب مصلحة أمريكا بقيادة بوش الأب والابن، الوقوف في وجه هتلر العرب وتحرير الكويت أولاً على يد الأب، ومن ثم تحرير العراق من حكمه الغاشم على يد الابن، وخلاص دول المنطقة والعالم من شروره إلى الأبد. لقد حكم صدام حسين الشعب العراقي بالحذاء لمدة 35 سنة، وقتل منهم مليونين نسمة، وشرد خمسة ملايين وأحال العراق إلى أكبر مقبرة جماعية وسجن في العالم.. ولكن لما حررهم الرئيس بوش من حكم الحذاء كافئوه برمي الحذاء عليه. وهنا أعيد ما قاله تشرتشرل في هذا الخصوص عن العراق: "يا له من بركان ناكر للجميل". وقد حكم صدام حسين الكويت لسبعة أشهر فقط، فأذاقهم المر، ولكن الشعب الكويتي لم ينكر الجميل، فقابل جورج بوش الأب بالمهرجانات والورود حتى بعد انتهاء فترة ولايته. كما ونرى الكويت حكومة وشعباً، هي الوحيدة من بين البلدان العربية، شذت عن القاعدة، فاتخذت موقفاً إيجابياً من العراق الجديد.

لذلك نؤكد بالمطلق أنه لولا أمريكا لاحتل صدام حسين الدول العربية الخليجية الأخرى، كمقدمة، وليزحف بعدها على بقية الدول العربية ويحكمها بالقندرة. ولكن النظرة القصيرة والضيقة للعرب هي التي تمنعهم من رؤية الحقيقة بوضوح، والتفكير السليم، ومراعاة مصالحهم والاعتراف بالجميل. لذا نراهم يبصقون على اليد التي قدمت لهم المساعدة ووفرت لهم الحرية.

يصف البعض ممن رقص وهلل بحادثة الحذاء موقفنا المناهض لهذا السلوك بأنه ناتج عن "الشعور بالدونية!!". ليت شعري، مَنْ هم الذين يشعرون بالدونية، الذين يسيئون إلى الحرية عندما يأمنوا العقاب، أم الذين يطالبون باحترام الحرية وربط ممارستها بالمسؤولية؟ إن علم النفس يؤكد أن الجبان وحده هو الذي يسيء إلى الحرية والأدب عندما يأمن العقاب وذلك للتغطية شعوره بالنقص والدونية. فلو كان منتظر الزيدي يعرف أنه سيلقى نفس المصير الذي يلقاه لو ارتكب مثل هذا العمل في عهد صدام لما قام به، لأنه يعرف أنه هو وأقربائه وأبناء عشيرته سيبادون بأبشع الوسائل والأساليب. ولكن ارتكابه في هذا العهد هذه الجريمة لدليل قاطع على نجاح الرئيس بوش في توفير الحرية والديمقراطية وحماية حقوق الإنسان في العراق. ولذلك تمادى منتظر الزيدي في التفاخر بفعلته الشنيعة حيث أعلن بواسطة أخيه أنه "غير نادم ويفعلها ثانية إذا سنحت له الفرصة" ولم يتردد في التهكم على السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي، حسب ما نقل عنه شقيقه عدي الزيدي. (تقرير بي بي سي العربية، 22/12/2008). أقول هل كان يجرأ الزيدي أو أي شخص آخر أن يسلك هذا السلوك ويصرح بهذه التصريحات الاستفزازية في عهد صدام أو في أي بلاد عربية أو إسلامية أخرى؟ قطعاً ألف كلا.

إن سلوك الزيدي ومؤيديه ينطبق عليهم ما قاله السيد خضير طاهر في مقال له على شكل رسالة اعتذار إلى الرئيس بوش، جاء فيها: "نحن في مجتمعاتنا، أطفالنا الأبرياء ينظرون إلى المعلم الطيب الذي يتعامل معهم بمحبة أبوية وإنسانية نظرة احتقار، وتراهم يستهزؤون به ويخلقون الفوضى في درسه. وكبارنا يعتبرون الإنسان الطيب الرقيق ضعيف الشخصية ويحتقرونه سرا وعلانية.. لذا لا تستغرب من هذه المجتمعات حينما تراها تتباكى على مجرم بشع مثل صدام حسين، فهو يناغي نوازعها وقباحة نماذجها المثلى، وسبب لها صدمة كبيرة قرارك الشجاع بإسقاط صنمها وسحق رأسه وإرساله إلى مقصلة الإعدام، ودفنه في مزبلة التاريخ، ولك أن تتصور حجم ردة الفعل العدوانية نحوك شخصيا ونحو الولايات المتحدة الأمريكية."- (خضير طاهر، اعتذار إلى الرئيس بوش عن عار همجية بعضنا، إيلاف، 20/12/2008).

إن هذه الحادثة هي حلقة من حلقات مسلسل الإعلام القومي العروبي خلال الخمسين عاماً الماضية، بدأت بحسنة ملص وعباس بيزة أيام هجمة التيار القومي الناصري على ثورة 14 تموز العراقية، ثم برزت قبل عام لعبة إعلامية قذرة لصحفي بعثي يدعى (ضياء الكواز) من مكان إقامته في عمان حيث يدير موقعاً إلكترونياً ضد الحكومة العراقية، أعلن كذباً عن مقتل جميع أفراد عائلته في بغداد، مما أثار ردود أفعال شديدة في بداية الأمر، متعاطفة معه وغاضبة على الحكومة العراقية، ولكن تبين فيما بعد، أن الرواية كانت كذبة ملفقة من عقلية بعثية من أولها إلى آخرها. ولا ندري ماذا يبيِّت الإعلام البعثي في جعبته من هذه "البطولات الخارقة" في قادم الأيام.

لا أعتقد يشرف أحداً من مؤيدي "بطولة الحذاء" عندما انبرى النظامان المتحالفان، الفاشي الإسلامي الإيراني، والفاشي البعثي السوري، في كيل الثناء والمديح على هذه الحادثة. لقد وصف الحليفان المذكوران حادثة الحذاء بأنها "كانت انتفاضة الشعب العراقي على أمريكا" (كذا). وبذلك فقد أهان هذا التحالف الفاشي شعبنا بهذا الوصف البذيء، إذ اختزل نضال الشعب العراقي عبر عقود برمي القندرة من قبل صحفي بعثي نزق من طلاب الشهرة السريعة. وهذه الإهانة دليل على عمى البصر والبصيرة وغياب الضمير. إن أيديولوجية مبنية على الكذب والافتراء ونكران الجميل لا شك فإن مصيرها كمصير الطغاة من أعداء الإنسانية من أمثال هتلر وموسوليني وصدام حسين، في مزبلة التاريخ.