1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

خواطر وخسائر

١ أكتوبر ٢٠٠٩

ثامر مراد

https://p.dw.com/p/JvL5

لم أفكر يوما ان اكتب عن برنامج –خواطر- الذي كان يقدمه ألأستاذ الشقيري من قناة الرسالة كل ليلة من ليال شهر رمضان الكريم.كنت أتصور داخل عقلي اللاواعي أنه مجرد برنامج للتسلية الرمضانية أو أشغال مساحة زمنية للقناة تمتد من الثامنة الى التاسعة الا ربع..بيد أنني بعد أفول رمضان وفرحة العيد بقيت عدة ليال أفكر في مضمون البرنامج وماذا كان ألشقيري يريد أن يوصله لنا نحن المشاهدين –والكواكب العربية ألأخرى- المشمولة بموضوع البحث –والتشهير- ان صح القول؟.عندما كان البرنامج يظهر على الشاشة الصغيرة كان كل فرد من أفراد عائلتي الصغيرة المكونة من خمسة أشخاص-انا من ضمنهم- ننسى المائدة الفروشة على ألأرض ونبقى صامتين كأن الطيور على رؤوسنا جميعا ساكنين كسكون ألأموات في المقابر البعيدة.وبين فترة وأخرى نتخاصم فيما بيننا بصوت هائج فكل فرد منا يريد التعبير عن رأيه حول لقطة معينة وتبدأ الزوجة تصرخ في وجوه ألشباب الثلاثة-ولدين وبنت-تأمرهم بالسكوت لحين أنتهاء البرنامج.كانت كل لقطة من لقطات الحلقة بمثابة سياط لاذعة تلهب ظهورنا جميعا وتبدأ قطرات العرق تتصبب من جباهنا من شدة الخجل والحياء لما كان يتبين من عجز مفرط على صعيد العائلة الصغيرة والمجتمع العراقي والعربي بوجه أشمل...

حينما كانت اللقطة لحلقة معينة تبين مشهدا للنظافة الشديدة جدا لمنتزه من المنتزهات اليابانية تنهض –البنت- بلا وعي وبتأنيب الضمير وتبدأ بجمع ألأوراق المتساقطة تحت ألأريكة في غرفة ألأستقبال برد فعل عفوي تلقائي وكأن عقلها اللاواعي يحاسبها لأنها أجلت جمع تلك ألأوراق الى ما بعد الفطور الرمضاني.وتقول الزوجة بأنها ستنظف سطح المنزل غدا وتجعلة –كباقة ورد- . الطريف في ألأمر هو أنني فتحت أسواقا متواضعة داخل حديقة الدار لتلبية طلبات الجيران ولمساعدتي في التغلب على شبح العوز الذي سببه لنا-القائد الضرورة-على الرغم من أن بلدنا بلد نفطي وكان بأمكان الشعب أن يعيش حياة بذخ ورفاهيه لو أن –المنظمة السرية للنفط التي كان يترأسها صدام-قد صرفت كل واردات النفط الخيالية على الشعب المحروم.ولكن هيهات للشعب العراقي أن يرى الرفاهية طالما أن هناك حكام في كل ألأزمنة لايهمهم سوى رفاهية أنفسهم والمقربين منهم فقط..والا لماذا هناك فقراء وبائسين في كل زاوية من زوايا البلد الجريح.وعودة على ذي بدء حيث موضوع البحث.في الوقت الذي يظهر فيه البرنامج نغلق الدكان ولانهتم لأي قارع يقرع الباب طالبا مشروبات خفيفة مثلجة أوسكائر أولبن رائب..كنا نتجاهل أونهمل كل من يدق الباب ونتظاهر بعدم السمع فكان الجيران والزبائن يعودون أدراجهم حانقين حاقدين علينا جميعا-نحن أفراد البيت- كانت الخواطر قد سببت لي خسارة ملحوظة في تلك الفترة الزمنية القصيرة التي كان يبث فيها.وأخيرا كتبت لافتة مطبوعة على باب الدكان الخارجي"المحل مغلق من الثامنة حتى التاسعة ليلا لمشاهدة – الخواطر-"وكان حلا ناجحا مؤقتا لجميع ألأطراف.لو أنني أحصيت العبر والدروس التي حصدتها من مشاهدتي للبرنامج لكانت لاتعد ولاتحصى.لفت نظري شيء غريب فعلا حينما قال مقدم البرنامج بأن اليابانيين كانوا قد بذلوا جهودا مضنية لغرض توفير –مرافق صحية للشعب الياباني- حيث انهم توصلوا الى وضع أزرار ومفاتيح عند المقعد الذي يجلس عليه الشخص كي يسمع الموسيقى أو اصدار صوتا يشبه صوت انطلاق جهاز السيفون وهو يدفع الماء لكي لاينزعج الشخص فيما اذا صدرت منه –أصوات هوائية-قد تخدش مسامعه.أليس هذا ضربا من ضروب الخيال العلمي للمرافقات الصحية –ان صح التعبير-؟ في عام 1987 ذهبت مع مجموعة كبيرة من الصحفيين ألأجانب والعرب الى البصرة وكنت في حينها مرافقا للوفود الصحفية التي تزور العراق في ذالك الوقت.توقفنا في الكوت لغرض ألأستراحة ودخول – الحمامات-.شاهدت صحفية أمريكية تخرج من أحدى الحمامات صارخة بصوت مرعب وكأنها شاهدت داينصورا أو وحش كاسر..أندفعت نحو مكان –الخلوة- وأذا به مليئا بالصراصر والمياه القذرة بشكل يندى له الجبين مع العلم أن المكان الذي توقفنا عنده كان يطلق عليه –بالمطعم السياحي-.حينما شاهدت تلك الحلقة من البرنامج بدأ العرق يتصبب من جبيني وتذكرت الحادثة كلها.

أما ألأخلاص في العمل والتفاني من أجل تقدم بلادهم فهذا شيء أخر لوتحدثنا عنه ساعات طويلة لما أنهينا الموضوع. بعد السقوط عملت في شبكة تلفزيونية يابانية في بغداد لمدة أربع سنوات وأكتسبت بعض العادات اليابانية خصوصا ألألتزام في العمل والتفاني من أجل تنفيذ الواجب..بيد أنني لاحظت أن المدير العراقي بدأ يتذمر لسرعتي في العمل وكان دائما يحاول تثبيط عزيمتي ويطلب مني ان أعتذر من اليابانيين كي لاتستهلك سياراته الخاصة التي يوظفهن للعمل ألأخباري والتلفزيوني.كان يسرق اليابانيين بطريقة مقنعة...ثلاث سيارات كل سيارة لها أجرة خمسون دولارا في اليوم الواحد-يحاول أن لايخرجهن للعمل كي لايخسر بنزين.أما السرقة فكانت تحدث بلا رادع.السواق يضيفون أسعارا أخرى فوق السعر الحقيقي –ويعتبرونه شطارة-يالهم من سراق.والياباني يدفع دون أن يدقق السعر لانه يعتقد أن كل الناس نزيهين مثله في التعامل الصادق مع الحدث اليومي.وأخيرا خلق لنا المدير العراقي مشكله وهمية كي يزيح كل من يقف في طريقه وتمثيل دور الرجل النزيه.وأخرجني مع بعض البؤساء أمثالي وذهبنا نتسكع في شوارع وأزقة العاصمة نبحث عن رزق جديد.كتبت رسالة الى المدير الياباني الذي عاد الى بلده بعد انتهاء فترة عمله في بغداد-أكثر من أربع سنوات-وشرحت له عن كل مايعانيه ألأنسان ألعراقي من تناقضات وألام ألأبرياء الذين لم يرتكبوا أي جريمة أنسانية أوأجتماعية في حياتهم ولكنهم يدفعون ثمن جريمتهم ونزاهتهم وتفانيهم في العمل.

أتصل بي –المدير الياباني السابق-من طوكيو وقال لي بالحرف الواحد وبنص العبارة:" أسمع ياسيد-.......-أنا لم ابكي في حياتي ...لم أذرف دمعة واحدة في حياتي لا على صديق أم قريب ولكن كلماتك الصادرة من القلب جعلتني ابكي وأذرف الدموع وها انا أمسح دموعي وأنا أتحدث اليك...لايهم...من يدري قد أعود الى بغداد يوما ما لترأس العمل هناك عندها سأجعلك تعود للعمل قبل أن أغادر طوكيو".الذي دفعني للحديث عن النزاهه هو تلك الحلقة من البرنامج التي تحدثت عن ألأمانة والنزاهه في اليابان..الشعب ومركز الشرطة..حينما وجد شخصان حافظة نقود الشقيري وسارا مسافة كليو متر ونصف ليسلمانها الى أقرب مركز للشرطة...وفي الكوكب الذي أعيش فيه أنا يسرقك الشرطي في وضح النهار.تعرفت على شاب من مواليد 1985 وأشتدت أواصر ألألفه بيننا-على الرغم من أنه بعمر ولدي بالضبط- الا أن المكان الذي جمعنا للعمل سوية ساعات طويلة في مكان ما وزمان ما جعله يحدثني عن حياته غير النزيهه –وبفخر مطلق-.كان قد تطوع للعمل كشرطي لمدة سنة واحدة أستطاع من خلالها أن يشتري سيارة حديثة جدا-لاأستطيع الحصول على واحدة مثلها لو عملت ألاف السنين مع اليابانيين والروسيين والناس أجمعين.كان مع زملائه في الدورية يشترون الواجب من زملائهم ألأخرين في الوقت المحصورما بين الساعة الثالثة والسابعة صباحا ويقفون بدوريتهم على الطريق السريع ويأخذون من كل سيارة حمل مايقارب ألأربعين دولارا وعند نهاية الواجب يكون كل واحد منهم قد حصل على مايقرب من 300دولار.كان يقول ذالك بكل اعتزاز.فحينما يقول الشقيري بأنه في كوكب اليابان فهو يقول الصدق..لأننا في الكوكب العراقي أو الكواكب العربية لازلنا نعيش في العصور التي سبقت التاريخ الحضاري....وشر البلية ما يضحك.

متى ننهض من هذا الخندق الظلامي لنواكب أزمنة الكواكب المتمدنة والمتحضرة التي تهتم بألأنسان وتعطيه حقه كأنسان خلقه الله وفضله على كافة الكائنات..ومن هو المسؤول ..هل هي الدولة ام العائلة أم المجتمع؟