1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

بعد الانتخابات، هل من أمل في حكومة تكنوقراط؟

١٠ ديسمبر ٢٠٠٩

د محمد الربيعي

https://p.dw.com/p/Kyl6

في عام 2007 ، عندما اشار رئيس الوزراء نوري المالكي الى احتمالية تشكيل حكومة تكنوقراط كحل للازمة السياسية التي مر بها العراق، نتيجة الانسحابات المتكررة لوزراء ينتمون الى جبهات وكتل سياسية مختلفة تفتقد التوافق والثقة بين اعضاءها، وجد العديد من البرلمانيين والسياسيين والكتاب والمعلقين والخبراء في ذلك الاسلوب مخرجا من مأزق المحاصصة الطائفية، ومن مستنقع الانقسامات، وفي نفس الوقت عارضها العديد لانهم رأوا في ذلك عبور فوق مبدا التوافق السياسي، وظهرت مقالات وادبيات تبحث في التكنوقراطية وحكم التكنوقراط على سبيل المثال كتابات ياسين النصير و د. رياض الامير و د. هادي حسن عليوي و د. عبد الخالق حسين و ا. د. سليم الوردي معضمها تدعم موقف رئيس الوزراء. أكدت هذه المقالات على اهمية تشكيل حكومة من التكنوقراط تتألف من ذوي التخصص والمهنيين. ولكن ومع الاسف فشلت محاولة رئيس الوزراء هذه ليس بسبب معارضة الاحزاب والقوى السياسية لحكم التكنوقراط او عدم الايمان بقدرة هذه الشريحة او الفئة من حل الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها العراق، وانما لان العملية السياسية والحكومة كانت مكبلة بالحسابات الخاصة والتوازنات ومقيدة بالعقلية الطائفية التي تسود البرلمان والبلاد.

في هذه الايام، ونحن على ابواب الانتخابات لابد ان يعود الحديث عن الحكومة الجديدة، وهل ستكون حكومة "وحدة وطنية" مستندة على اساس المحاصصة الطائفية والتوازنات السياسية والاستحقاق الانتخابي مكرسة بذلك المصطلحات التي شاعت في الوسط الشعبي العراقي من فئوية وطائفية ومحاصصة وتوافق الخ، ام سيتم الخروج من هذا المأزق بتشكيل حكومة من الخبراء والفنيين تنسجم في تكوينها مع منطق الرجل المناسب في المكان المناسب. هذا سيعتمد على عدة عوامل اهمها قدرة الاغلبية البرلمانية على تجاوز الحدود الطائفية، وعلى درجة نكرانهم لذاتهم وعطائهم للشعب وللوطن وشعورهم بالمسؤولية، وهذا سيتطلب من البرلمانين الجدد احتراف فن العطاء وحب الشعب والتخلي عن المصالح الحزبية الضيقة، وافضل سمة لهذا النوع من الاحتراف هو تشكيل حكومة مدنية من التكنوقراط تتألف من اصحاب الكفاءة والقدرة على العطاء والدراية الفنية والتاريخ السياسي النزيه، ومن شخصيات يعرف لها بالنزاهة والخبرة، وتتميز بقدراتها الادارية والحكمة والتخطيط.

لقد عرف العراق في مراحل مختلفة من تاريخه الحديث وزارات عديدة استوزرها تكنوقراط، ونجحت هذه الوزارات في توفير الخدمات، لكنها لم تستطع تحقيق تطوير كبير لإيصال العراق نحو تحقيق الرفاهية لمجتمع صناعي متقدم. لربما يعود هذا الى طبيعة الانظمة السياسية المعادية للحريات الديمقراطية، وانعدام الاستقرار، واشتداد حدة الصراعات، والفساد الاداري، واسباب اخرى خارجية وداخلية ليس هدفي الخوض فيها هنا. وبعد سقوط النظام الدكتاتوري تم استيزار عدد من الوزراء الاكفاء في الحكومات المتعاقبة والذين يمكن وضعهم في خانة التكنوقراط بالرغم من انتمائاتهم او ولاءاتهم السياسية، وأحسنَ عدد منهم في عمله بالرغم من الظروف الشاذة وغير المستقرة التي عانى ولا يزال يعاني منها العراق، في مقابل عدد آخر من الوزراء الفاسدين ووزراء لم يكن بامكانهم البقاء في وزاراتهم لولا المحاصصة وشروط التوازنات السياسية.

ولا بد من الاشارة الى تعريف التكنوقراط لغرض التخلص من بعض المفاهيم المشوشة حولهم. التكنوقراط هم النخب المثقفة الاكثر علما وتخصصا في مهامهم، والذين يستطيعون من تسخير التقنية والمعلومات لانجاز مشاريع او خطط في مجالات الحياة المختلفة كالصناعة او الصحة او التربية ولهم القدرة على الابداع والادارة والقيادة. والتكنوقراطي ليس بالضرورة ان يكون حاملا على شهادة عليا كالدكتوراه لانها في بعض الاحيان لا تميز حاملها الا بالعنوان، بل انه من الضروري ان يكون صاحب تجربة وخبرة ميدانية او عملية وقدرة على حل المشاكل التقنية، وكما اشار اليه د. رياض الامير(مركز النور 12112007) ان "التكنوقراطي هو عقل مؤسس وليس شخصا يحتل مركزا او وظيفة، ويملك بحكم عقله شرعية دستورية وقانونية لان يكون حاكما. فوجود البنية العقلية المجربة والممارسة السياسية التي تولد الخبرة كشرطين اساسيين في توصيف مهمة التكنوقراطي، حيث انهما ترجحان كفة مسئول عن آخر". وتشترك أهم المعايير التي يقاس بها القادة في البلدان الديمقراطية مع معايير القيادات التكنوقراطية كالقدرات الادارية والدراية الفنية ونصاعة التاريخ ونظافة اليد والاخلاص. هل هذه المعايير تأخذ بالاعتبار عند الترشيح للمناصب العليا في الدولة العراقية؟ لا احد يعتقد ذلك، ففي غمرة الصراع السياسي وانعدام الشفافية يبقى الانتماء السياسي والمذهبي والقومي اساسا لاشغال الوظائف العليا في الدولة.

اما بالنسبة الى تسلم التكنوقراطي لمهام رئيسية في الدولة كمهمة وزير فإن ذلك سيكون بمثابة تكليف موقت قد يبعد السياسين عن مناصب الدولة وعن السلطة التنفيذية الا انه بالتأكيد لن يحرمهم من ممارسة السلطة التشريعية عن طريق البرلمان، فهو اذن زواج مصلحة بين الديمقراطية والتكنوقراطية. وهذا بالتأكيد لن يشكل خطرا على سلطة البرلمان والاحزاب السياسية، فكما يقول الكاتب غسان الامام، في مقالة له في الشرق الاوسط (20 حزيران 2004) بأن "رجال التكنوقراط العرب طبقة مؤدبة مهذبة، لا طموحات لهم خارج الادارة، ولا تطالب كالمثقفين او الاصوليين باستعادة الحياة السياسية. كل ما هناك الى الان هو ان رجال التكنوقراط راغبون بحرارة في تقديم خبرتهم في تطوير الاقتصاد والادارة، على اساس وضعهم في مواضيع اختصاصهم، واطلاق الحرية الادارية لهم".

هناك طريق اخر وهو طريق المزاوجة بين السلطة السياسية والسلطة التكنوقراطية بحيث تكون الوزارات الاساسية للحزب او الاحزاب ذات الاغلبية البرلمانية والوزارات الخدمية كالصحة والصناعة والنفط والكهرباء والتربية والتعليم العالي والزراعة من حصة التكنوقراط. الاحظ سمات هذا التزاوج في حكومة اقليم كردستان الجديدة برئاسة د. برهم صالح، حيث اذا ما امعنا النظر في اختصاصات وخبرة الوزراء ومن دون الاخذ بنظر الاعتبار انتمائاتهم السياسية، يظهر بوضوح غلبة التكنوقراط على التشكيلة الجديدة، هذا علما ان د. برهم صالح يعتبر من التكنوقراط ومن اصحاب الدراية العلمية والتكنولوجية بالاضافة للحنكة السياسية.

ان مسائلة التكنوقراط ومحاسبتهم وتنحيتهم عن وظائفهم وحتى محاكمتهم لهي اسهل بكثير من محاسبة او فصل المسؤول السياسي طالما يبقى التكنوقراط غير مسيسا ولا يحمل ولاءا الا الولاء للوطن وللشعب. ولربما في ظروف اخرى عند استبعاد التكنوقراط استبعادا كاملا يكون من الافضل ان تخصص المناصب العليا في الدولة لهم بحيث يمكن اطلاق ايديهم للقيام باصلاحات ادارية واقتصادية من دون الدخول في صراعات مع القوى السياسية المهيمنة على السلطة، وتشمل هذه المناصب وكلاء الوزراء والمستشارين والمدراء العامين. الخطورة في هذا الطريق تكمن في فشل التكنوقراطي في تحقيق هدفه في حل مشاكل المجتمع كنتيجة لمنعه من اخذ القرارات السياسية العليا وسحب السلطة الادارية من ايديه. ومثالا يظهر اليوم في مؤسسات الدولة حيث تتحول فئة المستشارين الى موظفين ادارين مجردين من دورهم في كثير من الاحيان، ولسببين رئيسيين اولهما ان كثير من المستشارين لا يعودون إلى فئة التكنوقراط، وثانيهما هو عدم تفهم دورهم في دولة البيروقراطية السياسية غير المستقرة.

وبعد هذه النبذة، لا يسعني الا ان اكرر دعوة أ. د. سليم الوردي (جريدة الصباح 2932007) الى قيادات الشعب السياسية المنتخبة : "شكلوا وزارة لادارة وتصريف شؤون الناس، واطلبوا منها ان تعد برنامجا زمنيا معززا بالاهداف الرقمية، يتيح لكم متابعة وتقييم ادائها، اختاروا وزراءها من عناصر مؤهلة وحريصة ونزيهة ومتدبرة، عنها لكم ان تطلقوا عليها ما تشاؤون من التسميات، وبضمنها تسمية حكومة التكنوقراط ان راقت لكم، شريطة ان توفر على الشعب العراقي المزيد من الاحباط". ان حكومة من تكنوقراط كليا او جزئيا لا يمكن ان تشكل ضمن مواصفات مهنية محددة شأنها شأن الوظائف الاخرى، فهذا مشروع غير واقعي في العراق حاليأ، ولا يمكن فرض شرط الاستقلالية الكاملة للمرشح لانه لا يمكن الحكم فيها، الا إن المهم أن يكون المرشح لشغل منصب تتعلق باختصاصه وبخبرته المهنية ومؤهل وقادر أكثر من غيره على تولي مسؤولية مهمة كالوزرارت والإدارت العامة.